Sunday, 16 December 2018

عن الرسالة التي طُويتْ في جيب بيكاسو



يقول الشاعر والصحفي الاردني محمد ابو عرب في مقدمة كتابه (رسالة في جيب بيكاسو) الصادر عن دار دوّن المصرية لعام 2018، انه يؤمن "أن مهمة الكاتب هي إخراج اسرار العالم إلى الملأ وفضحها وذلك بتحويلها الى مادة لغوية حيّة" وإن "ان كل انسان فارق الحياة ولم يكتب اسراره هو خسارة كبيرة للبشرية، فالحياة قصيرة ولا يوجد ما يستحق ان يظل سرا بعد الموت."
هكذا يُستدرجْ القاريء للدخول لخبايا هذا الكتاب الذي لا يشبه غيره ويصعب تصنيفه؛ هل هو قصص شفهية من ذاكرة قرية، أراد كاتبها الحفاظ عليها من التبدد والنسيان ودونّها حكايات مكتوبة، ام هو مجموعة مقالات معمقة تبحث في إستبطان عقائد وأعراف وسلوك البشر في تلك القرية، ازاء ظواهر وقف العلم عاجزا عن تفكيكها وتفسيرها؟ يدوّن الكاتب حكايات شفهية من ذاكرة قريته (القليعات) الواقعة على الجهة الشرقية من نهر الأردن، لكن كل الحكايات في الكتاب رغم ارتباطها بالمكان الذي تنتسب اليه وخصوصيتها، تتحول لدى القراءة التأويلية لها الى مسارات للوصول الى مفاهيم انسانية واسعة، منها الحب والخوف والوجود والسحر واللغة والدين. يقول الكاتب في مقدمته ايضا انه سيكون مخلصا لهذه الحكايات التي أشرعت له نوافذها على الحقيقة والكتابة والمعنى والصورة والذاكرة وغيرها من المفاهيم غير الملموسة لكنها من جانب آخر تلامس حياة الناس بقوة اليقين.
ينقسم الكتاب الى ثلاثة ابواب، الباب الاول هو حكايات في الحب؛ يفتتح الكاتب هذا الباب بفصل عن حكاية حب لم يُكتب لها النجاح يسمعها من جارته، وهل من شيء يشغل بال الدنيا غير الحب؟ وهذا بالضبط ما يحاول الكاتب الإجابة عنه حين تنتهي الحكاية، يقودنا إستباطنه في مغزى الحكاية إلى أسئلة عن جوهر الحب ومفارقة العيش بنصف قلب ومعنى أن تحتفظ عاشقة بقميص حبيبها لمدة خمسة وثلاثين عاما في مخدتها! تبدو الإجابة على هذه التساؤلات مثل تسلق جبل شاهق كلما اجتزتَ مرحلة في صعوده، تضاعف الجبل في علوه. هل يتحول الحب الى تعب، والذكرى الى عبء وجرح لا يندمل حتى لو مرّ وقت طويل؟ وما التنهدات والحسرات إلا ظواهر لهذا العبء كلما ذُكرَ المحبوب او خطر بالبال! تضعنا هذه الحكاية البسيطة بمواجهة مع ذاكرتنا كما يقول الكاتب، اذ ستظل معرفتنا بذواتنا قاصرة ما لم نعرف كنه ذاكرتنا جيدا، فما الانسان وتفاصليه الكثيرة والبسيطة سوى ذاكرته. وتتوالى حكايات هذا الباب في تماه بين ذاكرة الحب وما نحتفظ بداخلنا من هذه الذكرى، متمثلة ثيمة الرائحة في الحكاية الاولى وثيمة الوشم في الحكاية الثانية وثيمة اللون وإكتشاف النفس بالحب بالحكايات التالية.  في حكاية الوشم، تتحول الذكرى الى حروف مكتوبة على الجسد، فكأن الوشم في الحكاية هو الإعلان والتحرر والكشف عن الهوية العاطفية ومحاولة محو النسيان وقتل الغياب، حينما يشم العاشق اسم محبوبته على ذراعه. يستعين الكاتب في هذا الباب بالكثير من أقوال المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا موضوع الحب مثل أفلاطون وآلان باديو وجيمس فريزر وغيرهم، ليخضع هذه الآراء المعرفية لمنطق الحكايات البسيطة، ومحاولة في إستنطاق الحكمة من الحكاية، وتقديم قراءة ذهنية فلسفية لقيّم يحتكم إليها أهل القرية.
في الباب الثاني، ندخل الى حكايات القرويين اليومية وكيف يستعينون بقوة النص المقدس، بتحويله إلى طلاسم وتعويذات، للتغلب على معضلات الحياة التي تفوق قدرتهم الانسانية البسيطة، وكيف يتمكن يقينهم المطلق بقدرة هذه الطلاسم من التغلب على مصاعب حياتهم فعلا، وكيف تبتكر ذهنية المجتمع القروي أشكالاً من الممارسات الطلسمية لمواجهة المحن التي يمرون بها. ومنها حكاية رد الشاة الضائعة، وبتهالات عجوز عارفة تسكن في أطراف القرية لطقوس السقيا ونزول الغيث. الكاتب يبحث في ثنائية الخوف والضعف في سيرة البشرية من خلال هذه القرية كنموذج، وكون الأول هو وليد الثاني، والذي يظل الانسان يكافحه طوال وجوده على هذه الأرض، والانسان بالتالي مدين لهذين المحركين الداخليين اللذين يدفعان به نحو المعرفة والتجريب والابتكار. إن عقل الإنسان القروي يخترع إسطورته استجابة لمعطيات بيئته، وأن الذات النكوصية القروية تشعر بقدرتها على غلبة ماهو خارج إرادتها البسيطة بالإستعانة بالنص المقدس الذي يستمد قوته الغيبية من هيمنته عل ماهو يومي ومرئي وملموس.  
يبحث الباب الثالث من الكتاب في التنجيم، وفي لغة البدن وعرافة اليد (التويتمة/ المفردة هنا اما تحوير لتميمة او طوطم)، بإعتبار أن الجسد تجربة لتكثيف قوة الطلاسم في اللحم والدم، وذلك حين تتحول حركة الجسد إلى لغة تنبؤءات وعرافة، كما في الحكاية الاولى من هذا الباب، وكيف أن انقباض عضلة يد شيخ غريب الاطوار في القرية، تنبأت بموت شاب في منتصف عمره. فالتويتمة هي تنجيم قائم على قراءة لغة البدن، ورمزية خطابه.
الحكاية التالية تخبرنا عن العبث بطين الجسد بإطعامه طعاما مسحورا. لم يفلح العلم بالوصول إلى إجابة قطعية حول مفهوم وطاقة السحر ووسائله، فالسحر كما يقول جيمس فريزر، أول مظهر من مظاهر التفكير الإنساني، باعتباره ظاهرة اجتماعية مهمة، كما انه موجود في كل زمان ومكان. وهو أيضاً حالة تخيّل وتمرد على الواقع، كما في سياق القصة. تتوالى بقية الحكايات بثيمات مثل النار التي تحرس الكنز والتي تسمى (الرصد)، والتداوي بريق المبروكة.
إن الحلم هو تجربة موازية للوصول الى الممكن والمعجزة والجنون والكتابة، وليست اللذة في الوصول بقدر ماهي في تراكم المعرفة في المسير. وإن المعرفة ستظل قاصرة أمام تجربة وجود الإنسان على هذه الأرض، لذلك تبرز الحاجة إلى الغيبي والاسطوري كرديف لتجربة الوجود، لذلك نشأت حتمية وجود العارف والمبروكة في مجتمع القرية.  
 ندرك إن الكتاب يُبقي الباب مشرعاً للأسئلة التي لا أجوبة لها الا بطرح المزيد من الأسئلة. وإن هذه الحكايات هي جزء من تكوين الكاتب الفكري، لم يدوّنها خوفا عليها من النسيان او لإستخلاص أجوبة فلسفية، بل دونها لينبعث هو منها مجددا وليستعيد وجوده في تلك القرية مراراً كما يقول في الخاتمة.
صدر للكاتب محمد ابو عرب ديوانين شعريين قبل هذا الكتاب هما على التوالي (يمضي كزيتونة عالية) و(أعلى من ضحك الأشجار).


عن صحيفة الشرق الأوسط

Friday, 30 November 2018

عن رواية الباغ للروائية العمانية بشرى خلفان

(الباغ) حديقة عمانية متنوعة 


من غرائب اللغة العربية أنّ الفعل روى يفيد معنيين؛ الأول هو السقي والثاني هو السرد، وهذا ما يحدث مع رواية (الباغ) للروايئة العمانية بشرى خلفان، فقد سَقتْ القراء من زلال الحكايات والتاريخ والازياء والجغرافية وكل ما يخص هذا البلد الذي يقع جنوب الجزيرة العربية والذي ما يزال للغالبية مجهولا نوعا ما. وما من قارئ ينتهي من هذه الرواية الا ويذهب لتفحص خارطة عمان وجباله وموانئه ومدنه التي ترد في تفاصيل الرواية.
تقع الباغ في 334 صفحة وقد صدرت طبعتها الاولى عن دار مسعى عام 2016 وبغلاف ملفت بطلاسم حروفية ورقمية ورسوم بحرية اشتهر بها اهل عمان، وما أنّ نفتش عن لوحة الغلاف حتى نكتشف انها فعلا صفحة من مخطوط قديم هو (معدن الأسرار في علم البحار) للبحار العماني ناصر بن علي الخضوري. الرواية هي الاولى للكاتبة بشرى الخلفان بعد عدة مجموعات قصصية. والباغ حكاية تمسك بتلابيب القارئ وتقبض على مشاعره تماما من خلال قصة حب عجيبة تبدأ من اول صفحاتها ولاتنتهي مع نهايتها. لكن هذه القصة لا تشبه قصص الحب التي نعرف، بل هي قصة محبة ومصير بين أخ وأخته. تبدأ الرواية بهذه الجملة: " نخوض، يا نوصل رباعة يا يشلنا الوادي رباعة"، وخاضت الكاتبة برفقة قرائها وعبر مسالك وشخوص وتتابع احداث الرواية، رحلة موفقة وممتعة  لتنتهي في آخر صفحة بالجملة ذاتها "يا نوصل رباعة يا يشلنا الوادي رباعة".  
ورغم ان عالم السرد لا يحوي الحقائق بل التأويلات، لكننا ابحرنا في حقائق تاريخية عن عمان وتقلباتها السياسية بين السلطان في مسقط والإمام في نزوى، منذ أربعينات القرن الماضي وحتى إستلام السلطان قابوس الحكم. وقد اختارت الكاتبة لبطلي الرواية (ريّا وراشد) أن يَبْدآن رحلتهما عبر الغربة والنفي الارادي كرد فعل على الظلم الذي تعرضا له من العم والعشيرة عقب وفاة والدهما: "بلاد ما ترد الظلم عن أولادها ما نبات فيها ليلة" ص11. يختار الأخوان ترك قريتهما، لكن المنفى يتضمن فكرة الإلغاء، إلغاء علاقتهما بالسماء والارض والمجتمع، ثمة خط عمودي يصل بين السماء حيث المعبود وبين الاسلاف في هدأة الموت الطويلة، وثمة خط افقي يضمُّ (القرية /السراير) حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة. وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الاخوان. هول رحيلهما هو في اقتلاعهما من نقطة التقاطع هذه وازدراعهما في بقعة اخرى لن تكون نقطة التقاطع فيها هي ذاتها، فلا السماء اولى ولا الاسلاف اسلاف ولا الهواء ولا رائحة الزرع ذاتها. لكنهما وصلا مسقطا معا، وكأنما القاريء يحاذيهما في المشي ويتماه معهما، ويتعرف من خلالهما على جغرافية مسقط ومناطقها وبحرها وقلعتها وابراجها وبوابتها، وذلك عبر ما يرويه ويصفه الراوي وهو صوت الشخص الثالث الذي اختارته الكاتبة كآلية سردية، وقدّ تعمّدَتْ اشراك القاريء لإستكشاف الأمكنة والاحدث مع الأخوين، بهذا الصوت وهذه اللغة الوصفية التفصيلية المتتابعة، فصرنا نعرف جغرافيا مسقط في أربعينيات القرن الماضي( بيت فرنس/ بيت القنصل الفرنسي، قلعة الميراني، الفرضة، قصر السلطان، بيت الباليوز/ مقر القنصل الانكليزي، مقر الجمارك، كوت الجلالي/ السجن، حارة الميابين، بيت الوادي)، كأنما تدخلنا الكاتبة إلى هذه الجغرافيا منذ الصفحات الاولى لنكون شهودا بما سيحدث من تغيّرْ جغرافي مع تتابع السرد. كان راشد مزاراعا في قريته (السراير)، يهتم بالنخيل والزرع والجني والثمر، ويحوّل مجرى المياه الى قنوات الفلج، هو ابن الحياة والارض، لا يعرف القراءة والكتابة، كأنما تقصّد ابوه ذلك لخشيته من اجتماع العلم بالقوة البدنية عند ولده، وعلّم اخته ريّا القراءة وتلاوة القرآن ولم يعلّمه، لكن راشد وقع ضحية جهله حين إحتال عليه عمه وسجنه بتهمة ظالمة، وسيهزم راشد جهله بعد حين بتعلم القراءة والكتابة سريعا من صديقه علي. وما أنّ يصل مسقط حتى يفقد حريته، يفقد نخيله وزرعه ويتحول الى عتالٍ يحمل البضائع من والى السفن ثم شرطي يحمل سلاحا ثم عسكري في حامية مسقط. البحر مثل مسقط غسل جراحه وهيجها في ذات الوقت، بينما قرّب علم ريّا وحسن تلاوتها للقرآن من مضيفتها العودة التي تبنّتها وعلّمتها اسرار التداوي بالأعشاب وكيفية تغسيل الميتة وتكفينها، التي ورثتها عن امها. كان راشد طفلا غضوبا صموتا وكانت اخته ريّا اماً رؤومة وعارفة. تتزوج ريّا لاحقا من علي صديق راشد، كأن زواجها من صديق اخيها هو إرتباطا مضاعفا به.
جدوى الرواية:
أنّ كتابة رواية عن التاريخ القريب لبلد ما، لهو عمل شاق فعلا، فالكاتبة ارادتْ تضمين كل ما تعرفه عن تاريخ بلدها من خلال حكاية اخ واخته. مبرر كتابة الرواية هو الكشف والإكتشاف، والرواية التي لا تكتشف جزءً من الوجود لايزال مجهولا هي راوية غير مجدية، وقد تكون المعرفة هي مبرر الرواية الوحيد. وقد كشفت لنا الروائية بمهارة اخلاقية نادرة، خفايا علاقة انسانية قلما تناولتها الرواية من قبل وهي علاقة الاخت بأخيها وأرتباطهما المصيري معا، بدءً من اللحظة التي يربطان نفسيهما معا وهما فوق ظهر الناقة لعبور الوادي الذي تغمره السيول؛"ريا ليست بعيدة عنه، يسمع صوت تنفسها فيطمئن".
كشفت هذه الرواية ايضا الاحداث المهمة خلال حكم السلطان سعيد بن تيمور، هجرة العمانين للدراسة والعمل وتبنّيهم العقائد السياسية المختلفة، نشوء مسقط الحديثة ثم تولي السطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم. هناك تداخل بين الحقائق والمنازعات التاريخية وبين الذاكرة الشخصية للشخوص، بين انتقالات سردية رائعة من الذكريات التي يختزنها راشد في روحه والمشاهد التي يراها وهو في السيارة العسكرية المكشوفة، في طريقه الى صحار لبسط سيطرة السلطان المدعوم بالقوات البريطانية على واحة البريمي العمانية المحاذية للحدود مع ابو ظبي، لكن بريطانيا دوّلت النزاع الذي لم يُحل الا قريبا لصالح عمان.    
والرواية تستقريء الاساطير والعادات الشعبية والتداوي بالاعشاب، وتفاصيل الحياة اليومية للناس البسطاء من مأكل( التمر، القهوة، مرق السمك مع التوابل)، الملبس( كمة/طاقية، المصر/ العمامة)، (السبلة/مجلس الشيخ، البرزة/ مجلس الوالي، الصباح/ الدكة التي يجلس عليها حراس البوابات، الباغ/ الحديقة). طقوس العرس وأهازيجه، وخليط البشر المتعايشين من هنود البانيان والبلوش والعرب والإنكليز، وكل ذلك بلغة منسابة شاعرية بلا تكلف وصورية بلا إطالة في الوصف. كما نجحت الكاتبة جدا بتطريز السرد والحوارات بالدارجة العمانية وهو ما منح الرواية نكهتها الخالصة:(مدي يدش وفتحي قلبش)ص64. تقوم البنية السردية في هذه الرواية على حكايا النساء، حكاية ريّا الرائية التي حُجِبت بغلالات من الكلام والأمنيات، والتي رفض ابوها تزوجيها من ابن عمها الظالم ثم زواجها وامومتها، وحكاية أمها من قبلها التي تمت التضحية بها في زواج صلح بين القبائل، حكاية العودة وحكمتها وصندوقها ذو الأسرار، حكاية البيبي البحرينية التي تزوجت تاجرا من عمان. المرأة في هذه الرواية هي من يصنع الحدث ويديره كيفما تشاء باستثناء الحرب التي تُنْبتْ القسوة في القلوب. هي التي تشفي وتُطعم وتُعلّم:"لو علمتهن تكثر كلمة الله ويوم تكثر كلمة الله قلوب الناس ترق" ص116. وهكذا صارت ريّا معلمة في بيت(الباغ/ البستان)، الكاتبة هنا أحسنت توأمة العلم والحب مع البستان، وهل من بستان غير الحب والعلم! لكن الإستزادة من العلم تستدعي الخروج من (البستان/ الجنة)، وهذا ما حصل مع زاهر ابن ريّا حيث يهاجر الى الكويت طلبا للعلم تاركا حبيبته مزنة ابنة البستان وعلى شفتيها شبح قبلة يتيمة. المزيد من العلم سوف يشقيه ويجعله مسكوناً بالاسئلة التي ستقوده إلى مواجهة مع خاله راشد العسكري المنضبط، وإلى مصيرٍ مجهولٍ حتى نهاية الرواية.