Saturday, 29 November 2014

الفنانة البريطانية تريسي إمن تعرض سيرة جسدها



حينما يستنجد العري بالزائرين 

تريسي إمن(1963) الفنانة البريطانية البوهيمية التي عاشت الفقر والتشرد، وعانتْ في طفولتها من الإهمال ولم تلبِ إحتياجاتها الطفولية وأغتُصبتْ في سني مراهقتها الأولى تُتوجْ كأميرة فنية. من أشهر أعمالها الفنية المعروفة، خيمة صغيرة بعنوان (Everyone I have slept with) مدون داخلها أسماء جميع من نامت معهم، بداية من شقيقها التوأم وأبويها وإنتهاءاً بعشاقها. 


خيالها... جسدها
يصعب تقييم أعمالها على الرغم من تأثيرها الواضح في المشهد الفني البريطاني الشاب، فإسلوبها يتردد بين الواقعية التعبيرية والمازوشية الشعبية عبر الثيمة التركيبية الأنثوية الصارخة. فهي لا تتخيل كي ترسم، لأن خيالها أمامها تماماً (جسدها)، لكن عملها على المرئي أو المحسوس أصعب من إستيلاد الخيال وتحويله الى مرئي، فهي قد خَلقتْ من لحظات ضعفها الإنساني القناة والمحتوى لفنها. أعمالها المركبة فيها إصرار خام وديالكتيكي جدلي كئيب، ومعارضها كثيراً ما تتضمن شذرات ونصوص عنكبوتية شرسة وذات أخطاء إملائية مقصودة كأنها مكتوبة بيد غير واثقة أو متاكدة من شئ، تحيلنا الى ذهن كئيب ( كحولي أو ذو أفكار إنتحارية)، يخربش في لحظات بؤسه.
بإختراق الكتابة (الشذرات والنصوص القصيرة) للرسم، في محاولة لإختراع لغة صورية جديدة بالتلصيق والخطوط والمساحات اللونية غير المتداخلة، هو ما يُحيل اللوحة إلى تجربة تدوينية تتحول فيها إلى: نص، أو خرائط تدوينية. تريسي إمن فيضان لايقاوم،شرسة ومثيرة للشفقة في ذات الوقت، معرضها الجديد المعنون (المغامرة العظيمة الأخيرة هي أنت) في كالري المكعب الأبيض هو درس في التوائم بين المهارات التقليدية لأي رسام مع  الأفكار الفنية المتجددة والمسايرة للحياة.


الأشكال العارية بؤرة هذا العرض، خط متسلسل من تأملات زرقاء تؤطر الجسد البشري وهذا دليل آخر إن تخطيطات تريسي إمن ليست تقليعة متأنقة لمعرض واحد أو فترة زمنية محددة  لكنها تخطيطات متقنة فطنة مع محيطها البصري، واعية وثاقبة في التعامل مع العالم المرئي. كأنها تقارع كل الفنانين الذين تعاملوا مع الجسد الأنثوي العاري من قبل نحتاً ورسماً وتطرق هذا المعبد البطريريكي بنزقها وخشونتها وترجّهُ وتنتهكه في الصميم.

تريسي إمن قاصة بارعة، تنسج حكاياتها المأساوية والهزلية بطريقة لذيذة وساخرة كنمط متفرد من الإستنكار الذاتي، تروي أحداثها عبر لغة شعرية وحوار سخي بينها وبين متلقيها، حين تشركه بإستكشافات صريحة لعواطفها وعوالمها الانسانية. أعمالها الفنية مرايا صادمة لعكسُ مكابدتها الداخلية كأنثى تقف على حافّة الشّغف، بشعرية تبدو مقاربة جمالية للشبق الأنثوي الذاتي، وترجمة حارّة له ولعوالم المرأة تحديداً. قدرتها على دمج حياتها الشخصية بعملها الفني مكّنها بالتالي من إقامة تلك العلاقة الحميمة مع متلقيها، بالأحرى هي تشارك الآخرين تفاصيل كوابيسها وتكشف عن ذعرها وتخبطها كباقي البشر، فهي من حوّلت سريرها الشخصي بكل تفاصيله المحرجة من زجاجات الخمر الفارغة وأعقاب السجائر وقناني الفودكا والشرشف المتسخ بالبقع، الى قطعة فنية وصل الى القائمة القصيرة لجائزة تورنر الفنية المرموقة عام 1999 وبِيعَ في شهر حزيران الماضي بقيمة مليونين ونصف باون إسترليني في مزاد كريستي الى مستثمر ألماني يعيره حالياَ لمتحف تيت مودرن في لندن لمدة عشر سنوات. 

إجترارها الغزير لحياتها الشخصية يتضمن قصة إفتضاض بكارتها وغيرها من الإنتهاكات الجنسية التي تعرضت لها في عمر المراهقة الاولى، وفشل تطلعاتها وأحلامها، وعدم قدرتها على الأنجاب وتجربة الإجهاض التي مرّت بها، وإدمانها على الكحول، وشخصياتها المتخيلة والواقعية، وعشاقها وأعدائها، وعدم قدرتها على تفسير فرحها الخفي الذي يفوق الإستيعاب. 


نسكٌ فنيٌ
في عام 1996 عاشت تريسي إمن، ُنسك فني، لمدة أربعة عشر يوماً في غرفة معزولة في كاليري، بلا أي شئ عدا قطع الجنفاص وعدة الرسم في محاولة منها لإيجاد إسلوبها الخاص، وأخذت تتأمل ذاتها بمرايا معلقة بزوايا الكاليري، حيث يمكنها مراقبة نفسها المتزمتة في عريّها، لترجّ عفاريت ألوانها في محاولة لإعادة تأهيل تلك الذات فنياً، وقد تدفقت رسومات سيرتها الشخصية خلال هذين الأسبوعين. هذه الغرفة، أُعيد تركيبها بالكامل وتعرض الان كعمل فني في إستديو الفنانة في جادة واترلو في لندن وهو صومعتها التي تعيد فيها تشكيل كل الاماكن والشواهد المهمة في حياة الفنانة :الكهف ، الكنيسة، دير الرهبنة وهو مفتوح مجاناً لكل الزائرين .                                                                           
إمن تقول كل الحقائق الفظيعة والمشرقة في حياتها. تؤسس لفنها من خلال ألمها النفسي والجسدي، كشكل من أشكال الرفض للجنس المحرم والإغتصاب والإجهاض وممارسة الجنس مع الغرباء، تعرض نفسها وآمالها، ذلّها وإخفاقاتها ونجاحها، بصدق قاسٍ وسخرية شعرية. ومن فوائد هذا البوح غير المحدود الذي تمارسه الفنانة، هو أن يتعرف أناس أكثر اليها وكيف تبدو وتتغير إنسانياً وفنيا.ً             
إكتفاؤها من قوة إحتفائها بذاتها وتكشفها الصميمي داخل حدود العمل الفني، من كونها تجاوزت قناع المثالية، وحلّتْ بمهارة الفن وعصيانه المرح، وجهها الحقيقي محله. هذه الفنانة تجسد سيرة الشهوات فنياً، تخلق إسطورتها الشخصية بنفسها، وأعمالها الفنية يُنظر إليها على إنها تعبير عن إسطورة حية وإيقونة أنثوية تناقش قضايا مسكوت عنها غالباً.


فتنة التلامس مع الآخر

مرة أخرى تصرّ ترسي إمن على إن العمل الفني يجب أن يُستلهم من الحياة وهذا ما يجعل لوحاتها ومنسوجاتها تضجّ بالحيوية كأنها تهمهم، لوحاتها العارية التي تمثل بؤرة معرضها الحالي غريبة وفيها شاعرية جميلة، الوجوه فارغة بلا ملامح أو ذات بقعة لونية واحدة كأنها تطلب من المتلقي أن يُسقط ملامحه الذاتية على لوحاتها. تمتلك هذه اللوحات أيضاً حسّ الملاحظة الحقيقية رغم إنها عبارة عن بورتريت ذاتي، كأنها تُجرب على جسدها كما فعلتْ وسوف تفعل (في اعتقادي) في معارضها اللاحقة. الخطوط القاسية غير المكتملة للعري البشري في إسلوبها تستحضر الألم والمعاناة والعزلة، وهذه الخطوط متدفقة ومتمركزة تعبر عن الأجساد كما لو إنها وجوه بشرية. ومع ذلك فأن وضعيات مجسماتها البرونزية العارية التي ضمتّها قاعة الكالري الكبيرة تعلن رغم وجعها المفرط عن قوة خارقة. أجساد من البرونز بأطراف مبتورة تستلقي بكامل عذابها المرير، كأنها تستنجد بغريزة الجسد البدائية جداً وتصرخ بالزائرين.  

No comments:

Post a Comment