وكيف لا نموت من قلة الشعر يا إدغار ألن
بو
لا يزال
الغراب في غرفتي
مهما توسلت ليس ثمة كلمات تسترضيه
ليس ثمة دعاء للتخلص منه
حيث
توجب علي سماعه الى الأبد.
كان الجو
ماطراً في الثالت من إكتوبر عام 1849 لكن ذلك لم يمنع (جوزيف دبليو ولكر) وهو عامل
في مطبعة من الخروج من بيته متوجهاً الى مركز للإقتراع للإدلاء بصوته، حين عثرعلى
رجل يهذي وبحالة مزرية ملقى على رصيف بالقرب من مركز الإقتراع، كان الرجل يرتدي
ملابساً رثة غير ملابسه، نصف فاقد للوعي وغير قادر على تفسير كيف انتهى الى هذه
الحالة، نُقلْ هذا الرجل الى إحدى المستشفيات حيث قضى أربعة أيام متأرجحاً بين
نوبات الهذيان والهلوسات البصرية وينادي بكلمة واحدة هي (رينولد) ، لم يُعرف من هو
رينولد لحد الان، وجاء تقرير المستشفى بعد ذلك كالآتي: "تمّ التعرّف على
الرجل المجهول والمتسكع الذي مات على حافة الطريق، أنه الشاعر إدغار ألن بو".
غادر إدغار ألن بو مدينة
ريتشموند في ولاية فيرجينا قبل ذلك بخمسة أيام، في طريقه الى مدينة فيلاديلفيا
ولحد الان لا يوجد أي تفسير لتواجده في مدينة بالتيمور، مات بعمر الأربعين في
السابع من أكتوبر بعد سنتين من موت زوجته وحبيبته فيرجينيا إثر إصابتها بمرض السل،
المرض ذاته الذي توفيت به أمه وهو بعمر السنتين.
هناك عدة نظريات لتفسير
موته الغامض، يعتقد البعض إنه قُتلْ من قبل عصابة تستغل بعض الناس الوحيدين
للتصويت عدة مرات لمرشح واحد بعد أن يبدلوا ملابسهم ويفقدوهم الوعي بالخمر والضرب
المبرح، والبعض الآخر يعزي السبب الى تناول الكحول المفرط أو الى أمراض معينة مثل
داء الكلب أو الإنفلونزا. وسوف سيبقى سبب موت إدغار ألن بو غامضاً وملتبساً، كأن
موته قصة اخرى رتبها بنفسه لتليق بنهاية كاتب كان له الفضل في إجتراح أدب الرعب والقصص
البوليسية.
موته الملتبس كما توتره وكآبته وقلقه ومواهبه الخارقة التي شكلت شخصيته الإبداعية
المغايرة، والتي لم يفلح الدارسون حتى اليوم في تفكيك كل ألغازها وفي دخول كل
سراديبها، وظل علامة التجديد والابتكار في الأدب الاميركي، ومثالاً على عراك لا
يهدأ مع الهواجس والوجود. وصفه البعض بأنه
أغرب شخصية في تاريخ أميركا الشعري والأدبي، وستبقى قصائده ترتل آلامه ومعاناته، وكل
الأمريكيين تقريبا قرأو قصصه القصيرة مثل (جريمة قتل في المشرحة والحشرة الذهبية)،
كما إن قصيدتيه الغراب وأنابيلا لي كما بقية أعماله الأدبية لا زالت تحظى بشهرة بين القراء في جميع أنحاء العالم.
عام 2014 أقامتْ له بلدية مدينة بوسطن وهي مسقط رأسه،
تمثالاً بالحجم الطبيعي، يتوسط تقاطع شارعين في مركز مدينة بوسطن، التمثال يجسد
إدغار ألن بو وهو يرحل عن بوسطن (لأنه كان يكره البقاء فيها)، فاتحاً معطفه للريح مثل
يده ويحمل حقيبة مفتوحة يطير منها غراب بحجم أكبر من الطبيعي وخلفه يترك كتبه وقلبه
مقطوع الشرايين والأوردة ، التمثال من تصميم النحات ستيفن روكناك.
مدينة بوسطن ليست وحدها
التي إحتفتْ وكرمتْ إدغار ألن بو، فقد أقامت له مدينة ريتشموند حيث تربى بعد موت
والديه، متحفاً أُفتُتِحْ عام 1922 ، كذلك أقامت له مدينة فيلاديلفيا حيث أقام عدة
سنوات، متحفاً في البيت الذي سكنه مع زوجته فرجينيا وأمها عمته (ماريا كليم).
يزور معجبو بو في نيويورك
الكوخ الذي قطنه في برونكس حيث عاش أصعب فترات
حياته، حيث توفت حبيبته وزوجيته فيرجينيا وعانى العوز وكتب قصيدته الشهيرة (الغراب)،
السرير الذي إستسلمت فيه فيرجينيا للموت بمرض السل لا يزال على حاله في هذا البيت.
لكن اسم أدغار ألن بو إرتبط بمدينة باليتمور بسبب موته الغامض على أحد
أرصفتها، لذلك كرمته المدينة عام 1996عندما أطلقت عنوان قصيدته (الغراب) على فريقها
بكرة القدم. لم يكن هذا هو الإحتفاء الوحيد الذي حظي به بو في مدينة بالتيمور، فهناك
شخص مجهول يرتدي معطفاً أسوداً وقبعة (ربما يكون أكثر من شخص واحد)، يضع ثلاث
وردات حمر وقنينة كحول على قبر الشاعر إحتفاءاً بميلاده في الثالث من إكتوبر من كل
عام، إستمر هذا التقليد لمدة سبعة عقود من الزمن، وتوقف عام 2009 لأسباب مجهولة (ربما
لوفاة هذا الشخص).
سحر أدغار ألن بو هوليوود والسينما العالمية، حدّ إن نجوم الروك ونجوم السينما في بدايات القرن العشرين وحتى
السبعينات منه تأثروا بتفاصيل من حياته، من عادة إرتدائه للملابس السوداء الى
الإهمال والبوهيمية وصولاً الى حد تبديد موهبته وقريحته الشعرية، الى الإدمان على
الخمر وتدمير الذات ومقاربة الموت وملامسة أطيافه ومحاكاته عبر شخصيات إبتدعها
وجعلها تعيش موتها قبل الموت أحياناً، ولعل اشهر فلم مستوحى عن آخر أيام
حياته هو فلم (الغراب/ 2012 ) للمخرج جيمس ماكتيك.
وسيشهد نهاية شهر أكتوبر من السنة الحالية
عرض فلم أنيمشن بعنوان ( حكايا إستثنائية) مُستلهم من قصص بو القصيرة مثل (القلب
المليء بالقصص، والحفرة، والبندول) يهدف هذا الفلم الى تقديم أدب إدغار ألن بو الى
الجيل الجديد بطريقة عصرية.
الممثل البريطاني (إدريس البا) سوف ينهي عن قريب فلمه الجديد
المأخوذ عن رواية (يجب على بو أن يموت) للروائي الأمريكي (مارك أولدن)، والذي
يتخيل فيها إن قوى شيطانية تهدد مستقبل البشرية ويقع على عاتق إدغار ألن بو نصف
المجنون والمخمور دائما، إنقاذ البشرية من هذه القوى الشريرة بواسطة قوة خياله.
لماذا يستمر القراء في القرن الواحد والعشرين وفي مختلف أنحاء
العالم بقراءة النتاج الأدبي لكاتب مات مبكراً في القرن التاسع عشر؟ يحاول الناقد
الأمريكي لمجلة لوس أنجلوس تايمز(ديفيد يولن) الإجابة على هذا السؤال: " يجسد
إدغار الن بو في أعماله بشكل مميز التوتر في المجتمع الأمريكي، بين النزعة الجماهيرية
والنزعة الأدبية، بين ما يحدث على السطح وما يحدث في الخفاء."
رحل إدغار ألن بو عن عالمنا قبل 166 سنة لكن من الصعب نسيان إبداعه
الأدبي أو حياته الحزينة أو حتى موته المحير، يوماً ما.