Saturday, 21 February 2015

لا يبقى شئ سوى الصورة


الصور الفوتغرافية حين تتحول الى لوحات أرشيفية 

كم إستوقفتني الصور الفوتغرافية الأرشيفية بالأبيض والأسود، والتي تؤرخ لأناس عاديين من جنوب لبنان لعقود الخمسنيات والستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم حينما زرتُ معرض المصور الفوتغرافي اللبناني أكرم الزعتري في كالري التيت مودرن وكم إستوقفتني لاحقا صور أكرم الزعتري بمركز جورج بومبيدو في باريس كجزء من معرض فوتغرافي عن الشرق الاوسط. ترى لماذا يحظى أكرم الزعتري بكل هذا التقدير في كبرى المعارض في العواصم العالمية! 
يمزج أكرم الزعتري المولود في صيدا عام 1966 مهارات المؤرخ والفنان والدليل الفني ليجري فحصاً دقيقاً على الصور الفوتغرافية القديمة والمهملة ربما، ومدى قدرتها وقابليتها لعرض الماضي بحيادية ونقده. لوحاته الفوتغرافية تتحدى الصور النمطية للتاريخ القريب في محاولة لتقويم هذا التاريخ والتركيز على الفردانية الى درجة تضخيم هذه الفردانية في أحيان كثيرة. عام 1997 أسس مؤسسة الصورة العربية وهي منظمة غير ربحية متخصصة لدراسة وحفظ الصور الفوتغرافية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبحوزة هذه المؤسسة الان ما يعادل 300.000 صورة فوتغرافية.  بدأ اكرم الزعتري عبر هذه المؤسسة مشروع لإثارة إنتباه الناس والرأي العام لأرشيف إستديو شهرزاد للمصور الفوتغرافي (هاشم المديني ) وهو إستديو للفوتغراف بدأ عمله في مدينة صيدا جنوب لبنان منذ عام 1948، اللقطات الفوتغرافية التي التقطها مصورو إستديو شهرزاد تمثل صور لأناس من مختلف الفئات العمرية غير معروفين  فردية أو في مجموعات أو صور ثنائية، أناس مغيبون ومجهولون غالباً، لكننا نراهم بملابسهم البسيطة وتسريحات الشعر ونظراتهم التي يواجهون بها الكاميرا بشكل متعمد حينما تعلق هذه الصور المنسية في كبرى الكالريهات في العواصم العالمية. الصورة الفوتغرافية إذن هي اللغة الوحيدة المفهومة في كل أرجاء العالم والتي تصل بين الامم والثقافات وتربط  حياة البشر بتضامن عاطفي غالبا، والفوتغراف اذا ما إستقل عن الخطاب السياسي يعكس الحياة ومجرياتها بصدق ويتيح لنا مشاطرة الاخرين آمالهم وآلامهم ويلقي بضوء ساطع على الأوضاع السياسية والاقتصادية في لحظة الصورة ونصبح نحن المتلقين أينما نكون شهود عيان على أنسانية ولا إنسانية البشر. 
  
تضج هذه الصور بحياة حيوية كاملة الوجود، صورة لفتاتين ترتديان عوينات شمسية كبيرة كتلك التي سادت في تلك الحقبة تحضنان بعضهما، صورة أخرى لرجلين ومسدسين في أيدهما ويمثلان مشهداً للقبض على رجل ثالث بينهما، صورة اخرى لرجلين أحدهما يرتدي برقع على رأسه في محاولة لتمثيل دور عروس بينما يلف الرجل الثاني ذراعه حول كتف الأول، الكاميرا تحنط الإبتسامات والإيماءات وحركات الجسد ونظرة العين بل يخيل لنا إننا نسمع الناس ونشعر بهواجسهم الداخلية وننصت للضوضاء خلف جدران الإستيديو في الشوارع ، نلمس أحلامهم ورعبهم وآمالهم ووضعهم والاقتصادي وتطلعاتهم. 
 الصورة الفوتغرافية هي لحظة مرنة لمصافحة الاخرين
 كان إستديو شهرزاد ملاذاً آمناً في مجتمع محافظ، يسمح للناس أن يمارسو خيالاتهم وأحلامهم أمام الكاميرا للوصول الى صورة مثالية لهم ( من وجهة نظرهم) وهي ممارسة كانت شائعة ومقبولة داخل إستوديهات التصوير في تلك الحقبة، كأن الاستديو يفصل الناس عن محيطهم ليصبحو بطريقة ما أكثر إنتماءاً لأنفسهم وأحلامهم، كان الناس في تلك الحقبة من الزمن يذهبون للإستديو لأخذ الصور الفوتغرافية كنوع من الموضة مثلما يذهبون الى قارئ البخت لمعرفة طالعهم لذا فهم يعتمدون على المصور كي يحررهم من واقع مخذل أغلب الأحيان.

 عرض كالري التيت في لندن مجموعة لوحات أرشيفية تستقرء وجوه ومواقف الناس العاديين في لبنان للفترة من 1950_ 1970، مصنفة حسب الفئات تعكس هذه الصور وتبرز المكانة الاجتماعية والسياسية التي يعيشها من يجلس امام الكاميرا. الصور بالأبيض والأسود تثير فينا حنين جارف وتستنفذ غريزة الفضول الى أقصاها، أكرم زعتري يقترح طريقة لقراءة الصور الفوتغرافية بالتمعن في لباس و دوافع الناس الذين يجلسون لإلتقاط الصور كما لو إن الإستديو يروي فلم متسلسل لإناس مجهولين والمصور هو مخرج هذا الفلم. الزعتري يركز على الذكريات والأحداث اليومية التي تعيد تفسير سلوك الناس وأفعالهم وردات فعلهم في أوقات الحرب والمنفى ضمن نطاق المسموح به، في مقابلة لإبنة هاشم المديني صاحب إستديو شهرزاد قالت إنها لازالت تحتفظ بالديكورات والأزياء التي كان والدها يحتفظ بها في الإستديو كي يلبسها الناس ليتشبهوا بنجوم السينما. أكرم الزعتري صانع صورة وجامع لها لكن حقوق عرض الصور الشخصية بمعارض عامة للجمهور قد يثير فينا تساؤلاً : هل يسمح أصحاب هذه الصور بنشرها علناً؟ هناك صور مخربة عن قصد لأمراة شابة تدعى زوجة الباقري، طلب زوج هذه المرأة من المصور أن يتلف نيجاتيف صورها لأنها ذهبت الى الإستوديو دون موافقته، لكن أكرم الزعتري يبدع صور جديدة من نيجاتيف الصور المخربة عمداً، تصبح الخطوط المتعجلة التي تتقاطع على وجه المرأة الفاتنة جزءاً من جمالية الصورة ودليلاً كافياً على إن تخريب الجمال عمداً يزيده بهاء.  

 الكاميرا لا تكذب

في قاعة أخرى في كالري التيت خًصصتْ لعرض صور لأطفال فلسطينين من إحدى مدارس الأونروا وهم يجلسون جميعا على ذات الكرسي بالتعاقب وخلفهم حائط مخربش، يعود تاريخ  هذه الصور لسنة 1960، الفاقة جليّة على الوجوه جداً لا إبتسامات ولا ملابس مرتبة، أطفالاً غادروا طفولتهم قبل أن يولودوا ربما. 

 في صالة أخرى  صور ارشيفية لرجال من المقاومة الفلسطينية والسورية، بعضهم شباب يرتدون الملابس العصرية في تلك الحقبة يوجهون بنادقهم الى زاوية منحرفة عن الكاميرا بفرح يطفر من ملامحهم كأنهم يحملون حبيباتهم بين أيديهم ونستطيع أن نخمن بسهولة إن حمل البندقية في تلك الحقبة هي جزء مكمل لرجولة الرجل الفلسطيني. بينما يظهر رجال المقاومة السورية بشكل أكثر صرامة تلف رقابهم وصدورهم الغترة العربية ولا   
يحملون أسلحة بين اديهم.

بينما علقت في مركز جورج بومبيدو صورة أرشيفية جميلة ضمن مجموعة صور أخرى لأكرم الزعتري، لصياد لبناني يرتدي الطربوش وتقف خلفه إبنتاه يرتسم على محيا إحداهما عبوس العنوسة بينما تلّون وجه الاخرى إبتسامة الأمل يبدو إن الصورة قد إلتقطت في منزل الصياد لأن خلفية الصورة هي بطانية داكنة تخفي تفاصيل البيت البسيط لكن يد طفل تمسك البطانية في زاوية الصورة  وتفضح ضوضاء الدار.  

صور أكرم الزعتري شفوقة ومهذبة رغم بلاغتها وشخصية تميل الى ترك المشاهد يرى بنفسه صوراً لا تتظاهر بكونها فناً كما إنها ليست عظة، هي أثر الواقع فقط مثل طبع القدم أو بصمات الأصابع أو مثل أقنعة الموتى. 

No comments:

Post a Comment