Wednesday, 21 October 2015

الجسد إكتشاف إغريقي

كمال الجسد في منحوتات الحضارة الإغريقية، معرض في المتحف البريطاني
  
 

حين ولجتُ باب القاعة الأولى لمعرض )تعريف الجمال( في المتحف البريطاني، كأني دخلتُ الى عالم سحري لا يمت بأية صلة الى العالم خارج هذه القاعات، وكأنما بوابة مغارة جمال منسية قد فُتحت لزوار هذا المعرض المدهش.

يكشف هذا المعرض جذور الهوس المعاصر بجمال الجسد وفتوته وتناسق عضلاته في مجتمعاتنا الحديثة، حيث منحوتات الجمال الأغريقية تؤكد هذا الهوس التاريخي بالجسد وإبراز مفاتنه في جميع مراحل الحياة وفي شتى تفاصيلها. 
150 عملاً فنياً بين فخاريات ومنحوتات من المرمر والبرونز بعضها من مقتنيات المتحف البريطاني وبعضها من مقتنيات شخصية، مثل تمثال أفروديت وهو من مقتنيات الملكة إليزابيث الثانية، وكذلك إستعارات من متاحف عديدة. كل الأعمال المعروضة إبتداءاً من القرن الخامس قبل الميلاد تؤكد قدرة الفنان الإغريقي على تغيير مفاهيم الجمال الجسدي، بل قدرته على القيام بثورة في تمثيل الجسد البشري بإعتباره جوهر ومجرى ديمقراطية أثينا (أول مجتمع ديمقراطي في العالم)، كان الإغريق يحتفون بالجسد البشري بتمثيل طبيعته الفطرية المثالية، العري الذكوري دليل على الصفاء والحكمة والقوة، فعندما يخلع رجل إغريقي ثيابه في حلبة المصارعة أو حلبة الألعاب الرياضية فأنه يرتدي لباس الصالحين والمكتملين. ونتيجة لهذه الفطرة الإغريقية التي تنشد الكمال، التجرد من الثياب بالطبع، وهذا جليّ في منحوتات المعرض التي تبرهن هذا السلوك الإغريقي الإستثنائي والأصيل  لتمثيل الجسد الذكوري فنياً وبخلاف كل الحضارات القديمة الأخرى مثل الحضارة الآشورية والفرعونية التي تقرن العري بالخزي والإستكانة والخضوع، كان الإغريق يقرنون العري الكامل بالبطولة والتباه والنضوج الإنساني والإستعداد للحرب. لذا فأن التقييم الجمالي للجسد في عصرنا الراهن يرتكز ويستلهم قيمه من منحوتات الفن الإغريقي المرمرية والبرونزية وفخارياته التي أصابت زوار المعرض بالدهشة لدرجة الإتقان التي تمتع بها الفنان الاغريقي وكذلك أفق الحرية المشرّع لفكره وفنه بلا حدّ، لكي يبدع هكذا منحوتات . الإنسان هو مركز العالم في الحضارة الإغريقية وهو حر بإختياراته وفكره وجسده خير تمثيل لهذه الحرية، وكما قال بروتاغوراس الفيلسوف الشكاك اليوناني:( إن الإنسان هو مقياس كل شئ، الموجود وغير الموجود).
أبرز منحوتات المعرض هي:   
إفروديت الرابضة وهي تتأهب لحمامها، التمثال بحجم أكبر من الحقيقي، يعود تاريخه الى القرن الثاني الميلادي وهو تقليد روماني للأصل الإغريقي. التمثال من المقتنيات الشخصية للملكة إليزابيث الثانية. أول تمثال يفتح مغارة الجمال الإغريقي ، إفروديت التي تعطي ظهرها لزوار المعرض، تجعل من يقترب منها يشعر بروعة هذه القطعة الفنية وإستثنائيتها، كأنه يقع في خطر الإقتراب من آلهة الجمال، ظهرها الصقيل المسطح ورأسها المائل بنظرة قوية من فوق كتفها الأيمن وذراعها اليمنى تستلقي فوق كتفها الأيسر، كأنها تستفز جميع حواسنا وتغوينا بالإقتراب، فندور حولها عدة مرات نتأمل دقة وبراعة النحت الإغريقي، هذه المنحوتة تغوي بالترحيب لكن بعد تفحص لملامحها ندرك إن نظرتها تحذيرية وليست ترحيبية. 

في القاعة الأولى أيضاً يستقبلنا تمثال إغريقي برونزي بالحجم الطبيعي لمبارز عارٍ بالحجم الطبيعي ينظف جسده بأدة معدنية بعد التمرينات الرياضية وقبل الإستحمام، إنتُشلَ هذا التمثال عام 1999من البحر على ساحل مدينة (لوشين/ Lošinj) في كرواتيا وهو يعرض لأول مرة في المملكة المتحدة.
تمثال لإله النهر ( نهر إيلسيز/ Ilissos) يعود تاريخه الى (438-432) وهو أحد تماثيل معبد البارثينون في إكروبوليس أثينا، وهو تمثال إغريقي أصيل على خلاف أغلب منحوتات المعرض الأخرى التي هي نسخ رومانية عن الأصل الإغريقي المفقود.  تمثال بلا رأس، مكتمل الفتوة مستلق كأنه يريد رفع نفسه على صخرة، حركة الجسد والعضلات  خير تمثيل على إنسياب الماء وموج النهر المرواغ . من يقترب من هذا التمثال، يستنشق حيويته، نحت عجيب، رشيق ولدن من مرمر بارد، حُوِلَ الى جسد مشدود ينز حيوية ودفء وينزلق من ذراعه ردائه الذي يتحول الى موجات مياه منسابة للناظر اليه من الخلف. 

تمثال من البرونز ل (زيوس) كبير آلهة الأولمب بإرتفاع عشرين سنتمتر يعود تاريخه بين القرنين الأول والثاني الميلادي، هذه المنحوتة قطعة إستثنائية غنية التفاصيل فهي تصور زيوس بجسد مفتول العضلات وبملامح قائد حكيم وشعر كث، يحمل صولجاناً ويجلس على قاعدة نحاسية مع أيحاء إيروتيكي  لجمال الجسد الذكوري. التمثال من مقتنيات المتحف البريطاني وقبل ذلك كان من مقتنيات الفنان الفرنسي دومينيك فيفان دينون أول مدير لمتحف اللوفر.
تمثال لفتى رياضي يعود تاريخه الى القرن الأول الميلادي وهو من مقتنيات المتحف البريطاني وهو تمثيل لفكرة التناغم بين الجمال الجسدي والحكمة الإخلاقية والإنغماس بتساؤلات الوجود. هذا التمثال هو نسخة عن الأصل الإغريقي الذي يعود تاريخه الى زمن سقراط، يخيل لي إن هذا الفتى الحالم أحد تلامذة المعلم سقراط، يغرق في تساؤلاته بعد مجادلة مع معلمه. العري في هذه التماثيل يبتعد تماماً عن الإيروتيكية، فهو فضيلة العودة الى الذات وإرتداء الجسد المجرد وهذا واضح جداً من خلال ضمور الأعضاء الجنسية.  

بخلاف العري الذكوري، كانت النساء الإغريقيات يرتدين الملابس الشفافة غالباً والتي تحكي عن الجسد وتوحي به أكثر مما تظهره، وهذا ما سيلاحظه الزائر حينما يقترب من تمثال الراقصة وهو تمثال برونزي باذخ التفاصيل لراقصة ملثمة وبرداء فضفاض لكن إنحناءات الجسد والرداء فوقه تظهر دقة ورهافة النحات الإغريقي، الرداء الفضاض على الجسد الإنثوي له دلالات إيروتيكية صريحة على خلاف العري الذكوري.
 منحوتة لجذع بشري من مقتنيات متحف الفاتيكان والتي يعود تاريخها الى القرن الأول قبل الميلاد، ويعتقد إنه يمثل جذع البطل الإغريقي هرقل، كان لهذا التمثال تأثير كبير على مايكل إنجلو نحات عصر النهضة الإيطالي حينما طلب البابا منه تكملة الجذع بإضافة رأس وذراعين، لكن مايكل إنجلو رفض لأنه إعتقد إن التمثال مكتمل بشكل لا يضاهى بوضعه الحالي وهو يحوز كل المفاهيم المثالية لفن النحت الإغريقي، وقد إستلهم مايكل إنجو هذا التمثال الإغريقي في لوحته (خلق آدم).
تمثالان صغيران لسقراط ، تمثال لإله النبيذ ديونيس يجتمع فيه بالتساوي جمال الذكر والإنثى، ورأس مرمي للإسكندر المقدوني وفخاريات وأقداح نبيذ مختلفة الأشكال منقوشة من خارجها وباطنها. جمع هذا المعرض منحوتات خالدة لأعظم الفنانين الإغريق مثل فيدس وميرون وبوليكيتوس، كان لها أعظم الأثر على فناني عصر النهضة وما تزال تشيع الجمال والفن لكل من يراها. شخصياً شعرت انني أكثر ذكاءاً وجمالاً عند إنتهاء زيارتي للمعرض بل إن هذه التماثيل والفخاريات العجيبة جعلتني أكثر فطنة وإحساساً بجمال الجسد الإنساني والذكوري خاصة، وأحسب إن جميع الزائرين إنتابهم ذات الإحساس.  

Sunday, 18 October 2015

فريدا كايلو إيقونة الأزياء


يستضيف كالري (مارتن هوبن/ Michael Hoppen ) في لندن معرضاً تسجيلياً صورياً لأزياء ومقتنيات الرسامة المكسيكية فريدا كايلو، وكانت هذه المقتنيات قد جُمعت في غرفة في شقة الفنانة وأقفلت هذه الغرفة عقب موت الفنانة بأمر من زوجها الفنان دييغو ريفيرا. بقيت هذه الغرفة ومحتوياتها مقفلة كما أراد دييغو ريفيرا ولم تُفتح إلا عام 2004 بعدما إرتأت إدارة متحف فريدا كايلو في مكسيكو ستي على جمع مقتنيات الفنانة وضمها الى متحفها الفني.  


 من ينظر الى لوحات  فريدا يعرف إنها تضع نفسها في مركز اللوحة، لوحاتها الذاتية لها مذاق سوريالي خاص، فهي ترسم نفسها كما لو إنها ترى ذاتها من بعيد أو كمن يرى نفسه في حلم فنطازي ويدوّن ذلك الحلم بفرشاة وألوان. مظهر فريدا كايلو المميز، شعرها الأسود الذي تكوره فوق رأسها، حلقها الكبير المعلق في إذنيها والزهور التي تزين بها شعرها، حواجبها الكثيفة التي تركت دون تشذيب، والشعر الخفيف فوق شفتها العليا، كل هذه التفاصيل صارت جزءاً من شخصيتها المميزة، كما عذابها الإنساني بين الألم الجسدي وإغتراب الفنان الأبدي. لو تمعّنا أكثر في لوحات فريدا الذاتية سنكتشف سريعاً إسلوبها الخاص بإختيار ملابسها، فهي لبست وبإصرار الملابس التقليدية للمرأة المكسيكية لكنها طوعتها بما يلائم ذوقها وإسلوبها الخاص، مشدات ملونة للجزء العلوي من جسمها وتنورات طويلة والجزءان يتميزان بالتطريز والتخريم وبألوان حيوية تضج بالحياة. إسلوبها المميز في إختيار أزيائها  كان بمثابة بصمتها التي وقعت بها صورها الفوتغرافية الكثيرة والتي شكلت إسطورتها  كفنانة وإنسانة فيما بعد. إرتدت فريدا كايلو في لوحاتها وصورها الفوتغرافية أزياءاً كانت تتناقض كلياً مع الموضة السائدة في الثلاثينات والأربعينات والتي تميزت بالطراز الناعم الأملس للوجوه والثياب وقد تأثر وإستلهم العديد من مصممي الأزياء ثياب فريدا كايلو، مثل المصمم الفرنسي جان بول غوتييه والمصمم مارك جاكوب وبيت الأزياء الشهير دولتشي آند غابانا. 
كان هوس فريدا كايلو بالأزياء الغريبة واضحاً وجلياً لكل من عرفها وعندما توفيت عام 1954 عن سبعة وأربعين عاماً قام زوجها الفنان دييغو رفيرا يإقفال الغرفة التي تحتوي ملابسها ومقتنياتها الشخصية ولم تفتح هذه الغرفة الا بعد خمسين عاماً، تم حفظ هذه المقنيات والثياب في متحف فريدا في مكسيكو ستي كما تمت أرشفت ما يقارب 300 قطعة  من هذه المقتنيات صورياً، والتي يعرضها الان كالري مارتن هوبن في لندن لموسم معارضه الصيفية. صور مقتنيات فريدا كايلو بكاميرا الفنانة الفوتغرافية اليابانية (أسيوجي مياكو)، والتي صورتها عندما عُرضت  للجمهور أول مرة في متحف فريدا كايلو. تكشف صور هذه المقتنيات هوية فريدا كايلو الإنسانية والفنية وإسلوبها وتفردها رغم عوقها الجسدي. الصور المعروضة تظهر ملابس فريدا التي أحبتها وإرتدها الى أن بُليت، مثل ثوب السباحة الفيرزوي اللون الملئ بالثقوب والذي بهت لونه من كثرة الإستعمال، عويناتها الشمسية المفضلة، جواربها المرتقة وكذلك فساتينها المكسيكية المطرزة الحواف والتي إستوحتها من ثياب نساء منطقة تايهوانتيبك وهو مجتمع أمومي جنوب شرق المكسيك، إرتدت فريدا هذه الفساتين كرمز للأنوثة القوية والصادمة. صور أخرى  لقمصان فريدا معقدة التطريز (الهيوبل) والتي تشتهر بها نساء وسط المكسكيك وتعود الى حضارة الميايا وهي قريبة الشبه من لباس المرأة الفلسطينية التقليدي. الزائر للمعرض الصوري يلاحظ إن إسلوب فريدا كايلو في إختيار ملابسها متطابق تماماً مع شخصيتها وحياتها، فهي كما كل النساء كانت تولي أهمية كبرى لثيابها لأنها تمنحها الشعوربالفرادة، لكنها من جانب آخر إستعملت الثياب كقناع أحياناً وكنوع من جذب الإنتباه إليها والى ألمها الجسدي. 

تعرضت فريدا في عمر السابعة عشر الى حادث إصطدام في الباص الذي كانت تستقله، هذه الحادثة أصابتها بمشاكل صحية وعوق لمدى الحياة، لكنها بدأت الرسم أثناء الثلاثة أشهر الأولى من وجودها طريحة الفراش في المشفى وكانت ثيابها لها الصدارة في أغلب لوحاتها، كما في لوحتها (بورتريت ذاتي بثوب القطيفة 1926) التي تًظهرها كأنها تصب جسدها المتألم الذي أثقلها في قالب من القديفة الناعمة علّها تخفي عوق ساقييها. قمصانها وثيابها الفلكلورية العريضة لا تبرز هويتها المكسيكية التي تعتز بها فقط بل تخفي تشوهات جسدها، صور ثيابها كأنها تروي سيرة حياتها، المشد العلوي الذي إشتهرت بإرتدائه هو غواية وقضبان للجسد المتألم داخله. 
   
وكلما خارت قواها وأصبحت حبيسة فراشها كلما صارت ثيابها زاهية الألوان أكثر، كما في صورتها المدهشة وهي بساقها الإصطناعية بعد بتر ساقها عام 1953 وقبل عام واحد قبل وفاتها.  صورة أخرى مؤثرة جداً لحذائها الأحمر ذو الرقبة الطويلة مع ساقها الصناعية تزينه شرائط كثيرة مع أجراس في نهاية الشرائط، كأن الأجراس إعلان متواصل عن الألم في كل خطوة. الزائر يخرج بمحصلة عن فريدا كايلو، هي ليست رسامة متفردة فنياً فقط بل إمرأة مبتكرة في إختيار الثياب والإكسسوارات لإبراز قوتها وضعفها كأنثى، كأنها كانت ترسم إنثوتها بتلك الثياب وتسريحة الشعر والإكسسوارات، ورغم مرور ستين عاماً على موتها لكن إسلوبها الأصيل سيدوم تأثيره طويلاً مثل لوحاتها الفنية. 


نشر المقال في صحيفة السفير اللبنانية

Tuesday, 13 October 2015

نص شعري

عري راديكالي 



في سومرست هاوس
ذهبت لزيارة معرض إيغون شيله   
ذلك إني أحب القذارة والعفن
أحب العري الخميص الأخضر
 وجوارب الدانتيلا بسيقان الغانيات  
لم أحتمل فكرة الوقوف مع الناس
في الطابور الطويل
وماذا يفعل كل هؤلاء البشر بالجسد النيئ للمسيح شيله؟
لا أحد منهم يشبه شيله
لا أحد في عمره
عجائز تغريهم الإعلانات عن المعارض الفنية في الغارديان  
عدت بعد إسبوع
كان الطابور أطول
والناس أكثر تأنقا
هي مناسبة كي أحتفظ بوهم وحدتي
قلت لنفسي.
 عجوز إنكليزي يستهجن شعري الأسود بإبتسامة
أجيبه بابتسامة جامدة
قد لا يعرف شيله
لكنه يستمني باللوحات ويقتل وقته ( سيدعنا الوقت نقتله بكافة الوسائل وهو مستسلم دائما) 
في الاسبوع الثالث عدتُ والرابع
صارت نزهتي الإسبوعية مراقبة طابور المعر ض.  
كي يغدو العالم مؤثثاً بألوان العفن
على الطوابير أن تطول
وعلى الوجوه أن تكون أكثر تغضناً
يا شيله:
 لم تجد لونك الذي ترتضيه
 فمضيت وإديث الى غير مكان
لا محاكم فيه ولا إنفلونزا إسبانية
وسأضم أنا صليبك وسنواتك الثمان والعشرين
  فإذكرني عند ربك ولا تدع الطابور يأكل من رأسي.  
 ________________________________________
إيغوين شيله: فنان نمساوي إشتهر بلوحاته العارية مات بالإنفلونزا الاسبانية بعمر الثمان والعشرين
إديث زوجته ماتت بنفس الوباء قبله بثلاثة ايام