معرض عن المقتنيات الفنية للفنانين
تبتكر إدراة الناشنول غالري في لندن أفكاراً متجددة
وغير مألوفة لجذب المزيد من الزوار والسياح للدخول الى هذا الصرح الثقافي المدهش
وسط لندن. لذلك تحرص إدارة الغالري على عرض الأعمال الفنية بسياق ومنظور مختلف،
كأنها تحاول إشراك الزوار في عملية بحث وإستقراء فنية لمصادر وملهمات الفنانين،
وتحفز لدى الزوار خاصية النقد والتحري، وتخلق وتنمي لديهم النظرة الفاحصة للعمل
الفني والمراجع التي إستلهمها الفنان، ومحفزاته على الإبداع. وهذا ما حصل في معرض المقتنيات
الفنية للفنانين، حيث تجمع إدارة الغالري خمس وثمانين لوحة، نصفها من مقتنيات
الناشنول غالري والنصف الآخر من المقتنيات الخاصة للأفراد وبعض المعاهد والمتاحف
حول العالم، تغطي هذه اللوحات فترة خمسة قرون من تاريخ الفن، لا رابط بين هذه
اللوحات ومبدعيها غير شيء واحد، إنها كانت معلقة في بيوت الفنانين المشهورين
وتأثروا بها في إبداع أعمالهم اللاحقة. لا يكتفي المعرض بهذا، بل يزيد بوضع اللوحة
الأصلية المقتناة جنبا الى جنب مع لوحة الفنان التي نتجت عن تأثره بها، كأن هدف
المعرض هو سبر العلاقة المتبادلة بين اللوحة والفنان الذي إقتناها. فاللوحة تتجاوز
كونها ديكوراً يزين بها جدار غرفة جلوس أو مرسماً ما، الى كونها باعثة على الإلهام
والتنافس الخفي وسبر أسرار الإبداع الفني، كأن كل لوحة معروضة تقول للزائر: إنظر وتفحص ونم ذائقتك الفنية
وكلما زرت معرضاً فنيا إبحث عن الملهمات التاريخية والفنية لكل فنان.
هناك عوامل أخرى تسهم في عملية إقتناء اللوحات بين الفنانين وهي الروابط
الشخصية بين الفنانين أو التقارب الروحي والفني أو حتى الإنتماء الى جيل أو بلد
واحد أو المكانة الاجتماعية لكلا الفنانين والرغبة في محاكاة إنجاز الآخر.
اولى قاعات المعرض خُصصتْ
للرسام البريطاني لوسيان فرويد وهو حفيد عالم النفس سيغموند فرويد، غادر لوسيان فرويد
برلين مع عائلته حين كان بعمر الحادية عشر بعد صعود المد النازي، وأصبح مواطناً بريطانياً
عام 1939وكجزء من إمتنانه لهذا البلد أهدى الناشنول غالري مجموعة من مقتنياته
الفنية. يستقبل الزوار بورتريت شخصي للرسام يعود تاريخه الى عام 2002 وهي لوحة تؤرخ
لشيخوخته وكما معروف ان فرويد يتقن رسم نظرته المركزة الغائرة، وهو غير معنياً إطلاقا
بتجميل ملامحه بل من ملاحظة كثافة اللون ونتوءات ضربات الفرشاة، نستشف عدد المرات
التي مرر فرشاته على وجهه المليء بالغضون والتجاعيد كأنه يؤكدها، كما يؤكد يده
المليئة بالعروق التي تمس ربطة عنقه، وقبل رسمه لهذا البورتريت، إقتنى لوسيان
فرويد عام 2001 لوحة بعنوان (المرأة الإيطالية ذات الأكمام الصفراء) للرسام
الفرنسي كاميل كورو يعود تاريخ اللوحة الى عام 1870، من مزاد علني وعلقها في
الطابق العلوي من بيته في لندن، وهي لوحة تصور خادمة بزي تقليدي وأكمام صفراء
براقة تنتهي بأشرطة، لكن نظراتها الغائرة والتي تميل بزاوية مائلة هي ما يميز هذه
اللوحة، ليس صعباً أن نكتشف إن نظرة فرويد في لوحته الشخصية مستوحاة من نظرة
الخادمة ذات الأكمام الصفراء في لوحة كورو، إقتنى فرويد أيضا عام 1999لوحة (ظهيرة
في نابولي) للرسام الإنطباعي بول سيزان والتي سرعان ما سيظهر تأثره بها في لوحته المسماة
(ما بعد سيزان) والتي تصور إمراتين ورجل كما في لوحة سيزان رغم إختلاف الثيمة بين
اللوحتين وكذلك العلاقة بين شخوص اللوحتين.
مقتنيات هنري ماتيس الفنية
القاعة الثانية خصصت للرسام الفرنسي هنري ماتيس(1869/1954) وأيضا يستقبل
الزوار ببورتريت شخصي يعود الى عام 1918يصور نفسه منغمسا في الرسم يحمل لوحة
الوانه وفرشاته، إقتنى ماتيس عام 1899 لوحة سيزان الشهيرة ( المستحمات الثلاث)
التي يعود تاريخها الى عام 1879 وهي لوحة كثيفة تصور ثلاث نساء كل واحدة بشعر
مختلف (احمر وأشقر وأسود) يستحممن في بركة وقت الغروب تؤطرهن شجيرتان بينما تتراقص
ظلالهن وظلال القمر على صفحة الماء، دفع ماتيس ثمن هذه اللوحة على شكل أقساط لانه
لم يكن يملك ثمنها لكنه بقي مهووساً بها طوال حياته وإعتبرها من أكمل اللوحات الفنية
ونتج عن هذا الهوس سلسلة من أربع منحوتات إستغرق بإنجارها عشرين عاما والمعنونة (
الظهر)، في هذا المعرض وضعت لوحة سيزان الشهيرة مع منحوتة الظهر الثالثة والتي
تجسد ظهر إمراة ذات شعر طويل وليس صعباً ان نلاحظ تأثر ماتيس بلوحة سيزان.
تعرض لوحتان لبيكاسو من مقتنيات ماتيس، تصوران عشيقة بيكاسو (دورا مار) وهي
شاردة الذهن تماما، يعود تاريخ اللوحتين الى بداية الأربعينيات، كان بيكاسو قد أهداهما
الى مجايله ومنافسه هنري ماتيس، تكشف اللوحتان حجم التنافس بين ماتيس وبيكاسو وكيف
كانا يتبادلان اللوحات عبر حياتهما ويشعران بالتهديد المتبادل الى درجة إن ماتيس
يصرح "ليس من حق أحد أن ينتقدني فنيا عدا بيكاسو".
مقتنيات إدغار ديغا الفنية
في القاعتين التاليتين نتعرف على إديغار ديغا (1834/1917) ليس بوصفه فنانا وأحد
مؤسسي المدرسة الانطباعية بل بوصفه جامعا للاعمال الفنية ومطاردا لها من مزاد لآخر
فقد كان يردد "أشتريت لوحات فنية وغرقت بالدين حتى لم أعد قادراً على توفير
قوتي اليومي" وهذا ما نتأكد منه عندما نشاهد لوحة (إعدام ماكسميليان ) لصديقه
ومجايله ادوارد مانيه، رسم مانيه هذه اللوحة تخيلدا لذكرى إعدام إمبراطور المكسيك
ماكسمليان. بعد وفاة مانيه قام ابنه بتقسيم اللوحة كبيرة الحجم الى أجزاء أربعة
وبيع كل جزء منها على حدة، حاول ديغا جمع
أجزاء هذه اللوحة مطاردة أجزائها من مزاد لآخر، لكنه لم يفلح تماما فقد بقيت فراغات
في حيز اللوحة الكبير.
إقتنى ديغا أيضاً، 22 لوحة للفنان الكلاسيكي الفرنسي جان أوغست إنغر و22 لوحة
اخرى للرسام الفرنسي إيغوين ديلاكروا وتسع لوحات اخرى لمانيه، ولوحات لبيسارو
وغوغان وروسو وسيزان وفان غوغ وحين مات إدغار ديغاكانت مقتنياته الفنية تقارب الالف.
أفضل أنواع الثروة
كتب الفنان الإنكليزي جوشوا رينولدز( 1723-1792) وهو أحد أبرز فناني القرن
الثامن عشر ومؤسس وأول رئيس للأكاديمية الملكية للفن في لندن، في مذكراته "حيازة
لوحات فنية لتيتيان وفاين دايك ورامبرانت هي أفضل ثراء". اقتنى هذا الفنان لوحات للهولندي رامبرانت واخرى
للرسام الانكليزي توماس غينزبره ولوحة لرسام عصر النهضة الايطالي جيوفاني بيليني(1430/1516)
واخرى كان يعتقد حين إقتناها إنها لمايكل انجلو.
القاعة الاخيرة خصصت للرسام البلجيكي
الشهير فان دايك(1599/1641) والذي بعد ان حاز شهرة ونجاح في إيطاليا وبلجيكا، إنتقل
الى إنكلترا وإشتهر بكونه رسام البلاط البريطاني ورسم لوحات للملك جارلس الأول
وعائلته، والذي إستمر تأثيره على الفنانين الانكليز طوال 150 عاما، ورغم تنقله بين
البلدان فقد إقتنى فان دايك لوحتين لرسام عصر النهضة الايطالي تيتيان، أحدهما
معنونة ب( الرجل ذو الأكمام) والتي رسمها تيتيان حين كان بعمر العشرين وإبتكر فيها
إسلوبا مدهشا ومغايرا عما كان سائدا في رسم البورتريت، فقد غيّر تيتيان من وضعية الجمود
والمباشرة التي يتخذها الشخص المرسوم الى وضعية جانبية توحي بالحركة، وكذلك نظرة
الشخص من مباشرة الى موحية، بل حتى غيّر في الإزار الذي يرتديه فقد جعله يغطي كتفا
واحدا فقط فهو إما على وشك إرتدائه كاملا او خلعه، هذا الإسلوب أثر لاحقاً في بورتريهات
رامبرانت الشخصية وكذلك في لوحة البورتريت الشخصي لفاين دايك التي علقت في الجدار
المقابل من القاعة حيث يتخذ فاين دايك ذات الوضعية الديناميكية في جلسته ونظرته
وثيابه ويزيد عليها بإنه يرفع يده ويمسك بها ردائه الذي على وشك السقوط.
يقدم هذا المعرض المدهش لزواره علاوة على حسن التنظيم وترتيب اللوحات تبعاً
لمقتنيها وفترتها الزمنية، وعلاوة على عرضه أعمالا إستثنائية لفنانين إستثنائيين،
نظرة تاريخية متسلسة للإبداع الفني فنحن نرى تيتيان بعيني فان دايك ورامبرانت ورينولدرز
ونرى سيزان بعيني فرويد وماتيس وديغا ونرى بيكاسو وديغا بعيني ماتيس ونرى مانيه
وإنغلز وديلاكروا بعيني ديغا وهكذا هي السلسلة الفنية في الإعجاب والإقتناء والتأثر
والإبداع .
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية
http://aawsat.com/home/article/737311/%D9%85%D9%84%D9%87%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%BA%D8%B7%D9%8A-5-%D9%82%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86
No comments:
Post a Comment