Monday, 27 April 2020

عن رواية (ساق الفرس) للروائي العراقي ضياء الجبيلي

 ساق الفرس والواقع المسكوت عنه 

تبدأ رواية ساق الفرس للروائي العراقي ضياء الجبيلي، والصادرة عن دار الفراشة لعام 2019، بحادثة انتحارغريبة، حدثت في العاشر من نوفمبر عام 2016 في لندن، انتحار فتاة عراقية تدعى عبير في التاسعة عشر من عمرها، كانت قد نجت من الموت مرارا في العراق، لكنها أنتحرت في لندن التي قدمتها لاجئة، رمتْ نفسها من الطابق الرابع في العمارة التي تعيش بها، على طريقة انتحار الممثلة سعاد حسني. تروي الأحداث أختها (سليمة)، التي تتلقى خبر انتحار شقيقتها أثناء تدوينها ملاحظات عن طقوس الندب والعزاء في العراق القديم كجزء من بحثها لنيل شهادة الماجستير، في مكتبة جامعة الدراسات الشرقية في لندن. يبدو الفصل الأول وعنوانه (لندن) بأقسامه الخمسة، مليئا بالمعلومات التاريخية، سواء ما يتعلق بالتراث الرافديني الذي تدرسه (سليمة) او الحقائق التاريخية القريبة لمنطقة وايت جابل اللندنية التي تعيش الأختان فيها، والتي اقترنت بجرائم غامضة حدثت نهاية القرن التاسع عشر وبقي القاتل مجهولا حتى اللحظة، وهو ما عرف بجاك السفاح. كذلك كان هذا الفصل مفتتحا لكثير من الإستذكارات والحقائق ترويها (سليمة). قد يبدو هذا الفصل مملا قليلا للقاريء الذي سيتسائل ما جدوى كل هذا السرد الهامشي، بقضية الانتحار التي هي عقدة الرواية ومحورها، لكن مجريات السرد في هذا الفصل ستجد ضالتها وصداها فيما سيأتي من احداث، ويبدو أن الروائي خطط جيدا للبدء برواية تشبه المواويل العراقية بإحتوائها على كمية مهولة من الحزن والمصائب. الرواية تجري على لسان سليمة بطريقة التداعي التي يمتزج بها الماضي والشكوك والإستطرادات والإنزياحات الأدبية، سليمة التي كانت امها تناديها ب(سْلَيْمَة) بتسكين السين، وهي مفردة بالدارجة العراقية ومعناها الموت او الكارثة الماحقة وقد وجدت سَليمة أصل المفردة في البابلية او الآرامية (سليموت) ومعناها شبح الموت. وبما إن لكل امريء من أسمه نصيب، فأن نصيب وهوية سليمة هو شبح الموت الذي سيظل يطاردها، فهي امرأة قد وجدت وطنا لها في مصائبها التي تبدو بلا نهاية، بينما كانت الغواية هي نصيب أختها عبير الذي رافقها منذ طفولتها، وقد وجدت الأخيرة ملاذها في الغواية. ينتهي الفصل الأول بمراسم هادئة لدفن عبير في أرض غريبة.


في الفصل الثاني، وعنوانه (البصرة) بأجزائه الخمس، نعود إلى حي عشوائي يعسكر قربه أحد ألوية الجيش العراقي على أطراف مدينة البصرة، أبان حرب إحتلال العراق 2003 . إتخذ الفقراء من أبنية لواء الجيش، مساكن عرفتْ بحي الحرية، بينما صارت مخلفات الجيش المدمرة من دبابات وأليات، ساحة لهو لأطفال الحي. سليمة البنت الكبرى التي أُجبرتْ على ترك دراستها الجامعية من قبل الأقارب بحجة (ماعدنا بنات تروح للجامعة)، وعبير الصغرى المصابة بإلتباس الهوية من جهة، فهي ترفض أنوثتها وتلعب مع صبيان الحي كصبي، ومن جهة أخرى وصلت الى سن البلوغ في عمر مبكر. وأمهما التي تشتغل عاملة تنظيف في أحد مستشفيات المدينة، بينما غيّب الموت الأب فجأة. تتعرض عبير إلى حادثة في أحد ليالي كانون الثاني من عام 2005، وهذه الحادثة ستصيبها بالخرس وستغيّر مصير النساء الثلاث إلى الأبد. صمتتْ عبير عقب الحادثة وكأن صمتها هو طريقتها في التعبير عن احتجاجها ضد ما تعرضت له، وصمتها هو سلاحها في ذات الوقت.  

تسرد سليمة الكثير من وقائع انتهاك الطفولة بالاغتصاب والقتل وسوء المعاملة، لكن محنة الإنتهاك تزيد من عاطفة الأخت الكبيرة تجاه شقيقتها وتصبح هذه المسؤولية معنى لحياة سليمة ودافع لمواجهة ما سيواجه الشقيقتان من محن لاحقة.
بطلة الرواية الفعلية ليست سليمة التي تجلس في شرفة شقتها اللندنية، وتستذكر حوادث آخر عشر سنوات من حياتها، بل هي الشقيقة الصغرى (عبير) البكماء، والتي عرفتْ كيف تغوي اولئك (اولئك مفردة جمعتْ بها سليمة كل القساة والمحتلين والطغاة والمنتهكين)، في سيناريو سادومازوشي، وعرفت كيف تسيّرهم حسب أهوائها، فهي تمسك (اولئك) في شباكها وتجعلهم يشعرون انهم يسيطرون عليها لأنها بكماء، في حين أن كل اولئك هم عبيد لغوايتها وصمتها.
تذكرنا سليمة في هذا الفصل بانتهاكات الطفولة التي حصلت بعد عام 2003، مثل اعتداء الجنود الأمريكان على الطفلة عبير قاسم الجنابي وقتلها مع عائلتها، وحوادث عديدة لأنتهاك الأطفال ثم قتلهم شهدتها المدن العراقية، وكذلك حالات القتل والإغتصاب بحق النساء التي شهدتها البصرة في اعوام( 2005-2008) ولاحقا إنتهاك اليزيديات وتعرضهن للبيع في سوق النخاسة. ينتهي هذا الفصل بلجوء سليمة وعبير إلى بريطانيا بعد أن عملتْ سليمة في القاعدة البريطانية في البصرة وتعرضها لمحاولة قتل واغتصاب ورميها بالقرب من مقبرة الانكليز في البصرة، وانقاذها من قبل أحد ضباط القاعدة البريطانية والذي سيكون له دور كبير في حياة الشقيقتين.
تجري احداث الفصل الثالث في لندن، بعد موت عبير، حيث تعتني سليمة بفرس انقذتها من الموت بعد أن كسرت ساقها في مضمار سباق. تُشبّه سليمة المرأة التي تتعرض للإعتداء بالفرس المكسورة الساق والتي لا ينفع معها أي علاج سوى القتل الرحيم، وكأن روح المرأة المنتهكة هي كساق الفرس، ستظل مشوهة ومنهوبة ولا ينفع معها علاج النسيان مهما طال الزمن.
يوظف الروائي الأمثال الشعبية العراقية بالسرد، على لسان سليمة التي تربتْ في بيئة شعبية، لكن الأهم انه قارب اسطورة عشتار وارشيكال في العلاقة بين عبير وسليمة في تراتبية الافعال والوقائع لكن بطريقة معاصرة. (عشتار/سليمة) تحب وتضحي وتحاول أن تصبح اما، بينما (أرشيكال/عبير) فتاة العتمة التي تغار وتغوي وتسرق بصمت ثم تموت مع اسرارها. نزول عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذ حبيبها تموز يكون مرادفا لهجرة سليمة إلى لندن ومحاولتها الفاشلة بإستعادة الخصب وانجاب طفل هجين من زوجها الإنكليزي.
حفلت الرواية بالكثير من التعقيدات السيكولوجية من خلال شخصياتها الرئيسية الثلاث الذين تشاركوا العيش في شقة في حي وايت جابل شرق لندن، عبير شخصية مُربكة للقريبين منها منذ طفولتها، ومرتبكة في ذات الوقت، وقد تحاشى الروائي أن تتكلم بصوتها لأنها لجأت إلى خيار الصمت المغوي. كذلك العلاقة المعقدة من حب وغيرة وتنافس بينها وبين اختها سليمة المصابة بالوسواس القهري، جعلها تغوي الرجال الذين يقتربون من سليمة. وايضا هناك العلاقة المتأرجحة بين الألفة والكراهية والاستغراب والإشمئزاز، بين سليمة التي لم تشف من صدمة ما بعد الاغتصاب ومارك الضابط الإنكليزي الذي أنقذ حياتها وتزوجها لاحقا. وقد أجاد الروائي في رسم شخصية مارك وسلوكه على امتداد زمن الروي، فمن حفيد لجندي بريطاني مدفون في مقبرة الانكليز في البصرة شارك في احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى، إلى ضابط في الجيش البريطاني في حرب 2003، تسببت دوريته في موت صبي عراقي بطريق الخطأ، ثم علاقته المعقدة بالاختين سليمة وعبير، فزواجه من سليمة الذي كان مجرد نزوة رجل تجاه امرأة سبق وإنتهكتْ، وهو نوع من الإعتراف بالذنب والتكفير عنه ورد الأعتبار إلى ضحايا الحرب غير المبررة من وجهة نظر مارك المتأخرة. ثم القاتل والمضطرب نفسيا الذي حاول الإنتحار برمي نفسه من جسر ويستمنستر.
في الفصل الرابع تعود سليمة الى البصرة بعد غياب عشرة اعوام للبحث عن أمها ومحاولة لإيجاد (اولئك) المنتهكين لها ولأختها. هذا الفصل اتخذ اسلوب اليوميات، فسليمة دونت تفاصيل رحلتها التي استغرقت اسبوعين، وبدأتها بزيارة لمنطقتها الشعبية، حيث أزيلتْ آليات الجيش الملوثة بالمواد المشعة مخلفة ورائها أطفال مشوهين ومرضى سرطان، وحلّ مكانها معمل لتصنيع الحبوب المخدرة تحت مسمى مصنع كريستال. لا سرد متخيل في هذه الرواية، فالشخصيات والأماكن والاحداث كلها حقيقية، حتى يخيل للقاريء انه يقرأ سيرة لحياة الشقيقتين. وكقراء يواجهنا الواقع برعبه الذي يتوالد في متوالية تبدو بلا نهاية، والذي لم تحاول هذه الرواية تزييفه، بل ان الروائي يسرده بصوت سليمة كنوع من ترويض الأحزان بالإفصاح عنه، لكن صوت الرواية الأنثى لم يخلو من نبرة ذكورية واضحة. لن تفلح سليمة في العثور على أجوبة لأسئلتها، لكنها تكتشف أن أمها اصبحت ضمن (اولئك).
رواية (ساق الفرس) هي السابعة في مسيرة الروائي ضياء الجبيلي، يعوزها الهوامش، فهناك الكثير الإحالات التاريخية والأدبية كان من الأجدر توضيحها بهوامش، وكذلك تلافي الأخطاء المطبعية الكثيرة.

عن صحيفة الشرق الأوسط

Tuesday, 21 April 2020

رسومات هتلر بتوقيع الثنائي الأخوين جابمان

نزعة تشويه الأعمال الفنية 

قد تكون الضربة القاضية للفن الذي نعرفه، فهذا المعرض يمثل المؤشر الأكيد لنهاية الفن التقليدي سواءً كان رسماً او نحتا. تماما مثلما نظّر له المستقبليون حينما نادوا بشطب تاريخ الفن وبتقويض وتهديم المتاحف في مسلخ ومذبحة عبثية ومقبرة لفراغ التجديد كما جاء في تصريحهم لعام 1909 .
جاك و دينيس جابمان فنانان بريطانيان تخرجا من الأكاديمية الملكية للفنون ، يموناننا بغرائبٍ إباحية متنافرة في معرضهما المشترك في كاليري المكعب الأبيض وسط لندن. العرض الذي احتوى على ثلاثة اجزاء متساوية في أهميتها وغرائبيتها. ويبدو ان الأخوين جابمان يرفضان النفيس والجميل لكل عمل أُنتجَ قبلهما لكي يمهدا عبر هذا الرفض طريقهما الفني الخاص والصادم ورؤيتهما المتفردة للإبداع.

الجزء الرئيسي من المعرض عبارة عن هلوسات متخيلة لجحيم الحروب  وخصوصا الحرب العالمية الثانية وجاء بعنوان ‘Fucking Hell’تجسدت هذه الهلوسات في تسعة أقفاص زجاجية متساوية الحجم مرتبة على شكل صليب معقوف . كل منها تمثل رؤية للهلاك والدمار والقنوط  يحملها الجنود النازيون ممثلين بمجسمات بلاستيكية مصغرة في مشاهد بائسة وتعيسة للغاية. هذه المشاهد تعيد تذكيرنا بفلم أعداء على الأبواب (enemy on the gates) الذي يصور معركة إحتلال مدينة ستالينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية وخسارة أربعة ملايين إنسان في هذه المعركة . إنه سِفر لجرائم النازية والديكتاتوريات العالمية التي إشتركت في سعار منظم للعنف دمر وآباد كل شئ حتى المؤن . 

 الإلتباس في هذه المشاهد كونها مذهلة في قنوطها ويأسها، نسخ تفصيلية مسهبة للجحيم. ورغم إن الفنانين لم يشهدا الحروب والديكتاتوريات فأن تصويرهما لهذه المآسي البشرية هو قمة في الواقعية المفرطة الى درجة جعلتني أستحضر كل هذه الكوراث من جديد.

آلآلاف الأجساد الممزقة أوالمتفسخة تحتويها هذه الأقفاص التسعة، يتشارك الأحياء منهم والهياكل العظمية في حمل تعاسة ومهزلة الحروب البشرية. لكن روح الدعابة ليست غائبة عن جحيم هذه الاقفاص، هناك مثلا لحظة تعميد هتلر الطفل في كنيسة محترقة او هتلر البالغ وهو يستريح بجانب قبر عملاق. ان الدعابة والرعب يمنحان التأثير الرمادي المميت لهذه الأقفاص الزجاجية الرهيبة.هناك مثلا مجسما لطفل ذي ثلاثة رؤوس يلعب الكرة على  ضفة ساحل بحيرة من دماء حمراء او جندي يمصّ الحليب من أثداء خنزيرة في مصفحة عسكرية. ولوكان المستقبليون صادقين بإدعاءاتهم ان الفن هو العنف والقسوة واللاعدالة فان الأخوين جابمان أظهرا قدوة وقدرة مذهلة ومدهشة لهذا الإدعاء.



الجزء الثالث من المعرض هو عبارة عن رسوم هتلر المائية التي رسمها خلال اقامته في مدينة فيينا بين الأعوام (1908-1913) والتي اشتراها الفنانان بمبلغ 115,000 باون استرليني رغم كل الانتقادات التي وُجِهتْ إليهما حول القيمة المعنوية لدفع مبلغ كبير لأعمال فنية بريشة أقسى دكتاتور في العالم. عرض جاك ودينس ثلاثة عشر عملا من هذه الرسوم المائية الهتلرية لكن بعد ان أضافا بصمتهما الشخصية لهذه الأعمال. أقواس قزح غافية ، نجوم براقة ،وجوه ضاحكة وفيضان منثال من القلوب أُضيفتْ الى خلفيات أعمال هتلر وعُرِضَت مجدداً في سوق الفن بمبلغ 685,000 باون إسترليني. 
الاخوان جابمان نفيا أن تكون هذه الرسوم والتي عرضت للبيع كقطع منفردة، هدفها إستعادة هتلر، وقد سبق لهما ان وصفا لوحات هتلر ب(العمياء) وناقصة للإبداع. ان فكرة إستعادة هتلر او أفكاره العنصرية هي سيئة جداً لكن فكرة إستعادة أعمال هتلر الفنية هي فكرة عبقرية (يقول جاك). ويصف هذه اللوحات :"انها لاتمت بأدنى صلة لهتلر الان بل هي نتاج أفكارنا، إن التهشيم والإفساد من الممكن أن يكون فعلا إبداعيا ايضا."
دينيس جابمان قال ان هذا العرض والمعنون (لو كان هتلر هيبي كم كنا سنكون سعداء),هو في الحقيقة إجترار لسؤال ماذا كان سيحدث لو لم ترفض أكايمية فيينا للفن هتلر الفنان الشاب. ويضيف لقد أظهروا عدم اكتراث لأعماله  مما جعله ممتلئا بالمرارة والإحباط والكره.
حاول هتلر دراسة الفن في هذه الأكاديمية وعرض لوحاته على لجنة القبول مرتين  بين عامي 1907 و1908 ورُفض قبوله كطالب فن بالمرتين. لكن هذه الرسومات كانت عادية تماما ولا تشي بأن الذي رسمها سوف يصبح  دكتاتورا ومرتكبا للجرائم بحق البشرية .

هذه اللوحات تمثل قشرة الرجل فقط وهي تشبه آلاف الاعمال الرخيصة التي تمتلئ بها الاسواق. 
وكل الذي يمكنننا قوله انها أعمال فنية فظة وفظيعة وتفتقر إلى أدنى مراتب الابداع.
 عنوان المعرضif Hitler had been a Hippy how happy would we be! )) لايحمل علامة استفهام ، لكنه يُسقط الأسئلة المنغصة في رؤوسنا.
-هل الروح البشرية تواقة الى الهلع؟
-هل من الممكن ان نتأمل العالم بدون الخوف؟
-وحتى لو تلاشى الخوف، هل من الممكن كما يقول الاخوان جابمان أن نعيد تخيله فنياً؟؟
هذه ليست المرة الاولى التي يشوه الاخوان جابمان الأعمال الفنية فقد سبق لهما أن اضافا لمساتهما الخاصة من وجوه مضحكة ورؤوس مهرجين لتخطيطات الفنان الاسباني فرانشيسكو غويا المعنونة (كوراث الحروب)مما أثار النقاد الاسبان ضدهما.
وعندما يحين الوقت الذي سيعصف بكل المتاحف ويُمحى تاريخ الفن للتجديد في الفراغ ، فان جاك ودينس جابمان سيكونان في اول الطابور بلا شك .