Wednesday, 17 February 2016

الحضور النقي

معرض النحات العالمي ألبرتو جياكوميتي 

عام 1919 سأل جيوفاني جياكوميتي الرسام السويسري ما بعد الإنطباعي إبنه البكر ألبرتو " هل تريد أن تصبح رساماً؟" كان جواب الأبن سؤالاً أيضا، لنفسه وليس لأبيه " رساماً أم نحاتاً؟".
ميزة المعرض الذي أقامه الناشنول بورتريت كالري في لندن وبعنوان (الحضور النقي) إنه لا يروي بإسلوب أكاديمي جاف السيرة الفنية لألبرتو جياكوميتي الذي يعد أهم نحاتي القرن العشرين، وكأن الفنان يعيش في عزلة، أو كأن الإبداع الفني لعبة فلسفية سامية بعيدة عن الواقع. وعبر هذا المنظور فان الزائر سوف يعي إن جياكوميتي بدأ مشواره الفني كواحد من السوريالين أمثال آندريه بريتون، خوان ميرو، بيكاسو، وماكس إرنست الذين تعرض صورهم الشخصية مع جياكوميتي في القاعة الثانية من المعرض المخصصة للصور الفوتغرافية، لكن جياكوميتي رفض الأفكار الفرويدية لاحقا وتبنى الإسلوب الرمزي، رغم انه أبدع منحوتات سوريالية مدهشة مثل عمله النحتي المروع (أمراة محزوزة الرقبة /1932).
 الزائرلهذا المعرض لن يعثر على منحوتات جياكوميتي السوريالية أوالمرعبة، لكنه سيكتشف وجهاً آخر لهذا الفنان، وقصة اخرى لا تركز على مرحلة باريس التي كان جياكوميتي أبرز رموزها الفنية بعد وقبل الحرب العالمية الثانية . هذا المعرض يروي سيرة علاقته الحميمة مع أمه وأبيه وإخوانه وزوجته وأصدقائه.
 يبدأ هذا العرض حيث ولد ألبرتو جياكوميتي في مقاطعة (ألباين) في سويسرا عام 1901 المتاخمة للحدود الإيطالية، بدأ الرسم حين كان في العاشرة بتشجيع من أبيه، في القاعة الأولى يُعرض أول تمثال له وهو رأس برونزي لأخيه دييغو، نحته حين كان في الثالثة عشر من عمره، وخلال أربعة عقود سيستمر جياكوميتي بنحت تماثيل لأخيه،  حيث يعرض التمثال النصفي المذهل لدييغو  1955 في القاعة الأخيرة من المعرض، حيث يضع جياكوميتي رأساً حاداً رقيقاً فوق جزءا علويا لجسم نحيل أيضا، لكنه يستعمل الزوايا المضادة في هذا العمل، فالزائر إما سيرى وجهاً بملامح كاملة فوق أكتاف مسطحة أو وجهاً حاداً مثل شفرة سكين فوق إسطوانة الصدر البرونزية الكبيرة. قد يثير هذا العمل الضحك وأيضا قد يثير السؤال والغور في لغز تضاد الزوايا هذا.  لايمكن أن يُختزل فنان ما في عمل واحد لكن جياكوميتي كان يرسم ويخطط وينحت تماثيل لأخيه دييغو طوال حياته  كأنه أراد أن يقبض على كينونة أخيه الإنسانية، لكنه كلما شعر بالعجز (أو هكذا خيل إليه) يستمر في نحت ورسم  دييغو مرارا وتكراراً، فالإنسان عصي على التوصيف.      

في سنواته الاخيرة 1960-1965 كان ألبرتو جياكوميتي مهووسا برسم حبيبته الشابة المتمردة (ايفون بويرادو) التي أطلق عليها في لوحاته اسم كارولين، عاشت كارولين وسط المجتمع الوجودي والبوهيمي الباريسي مع بائعات الهوى وعصابات الإحتيال والسرقة وموجة السينما الجديدة. 
عُلقت لوحات كارولين التي تبدو للزائر كأنها لقى أثرية، مع بعضها في القاعة الأخيرة للمعرض،  تبدو ملامح كارولين كأنها منسوجة بخطوط الفرشاة مثل شبكة عنكبوتية تتدلى منها خيوط متموجة من البني والرمادي، كارولين التي أنقذها جياكوميتي الذي كان في أوج شهرته الفنية حينئذ، من السجن بتهمة السرقة، ولم يتوقف عند هذا الحد بل أسبغ عليها بلوحاته كبرياء وأنفة وصورها كأنها أميرة تائهة في الدهر، أو كأنها ملكة فرعونية مجهولة، كارولين تلك الفتاة المشردة المنسية أخذت مكانها في الخلود مثل المومياءات المصرية المحفوظة جيدا عن التحلل، كصورة ورمز مهيب للغز البقاء الذي لا بديل للانسان عنه.   
 بعد الحرب العالمية الثانية كانت أوربا مقبرة طازجة لا تزال تربتها هشة من دفن الموتى والأنقاض التي خلفتها الحرب، وفي باريس تحديدا، كان جياكوميتي الفنان الوحيد الذي وجد شيئاً جديداً لكي يقوله يوازي رعب الموت والفناء، وعَبَرَ بفنه عن جسامة الحدث الذي تعرضت له أوربا في الحرب الثانية. لقد حفر فن جياكوميتي المختلف جوهر الانسان، بدائيته وغريزته النيئة، ببديهية بسيطة جدا لكنها حيوية ومدهشة ، هذه الحيوية الانسانية  المتجلية في منحوتات ألبرتو جياكوميتي، أصبحت بعد سنوات الخراب والحرب تلك، صورة جديدة للأمل المنشود، كأنها فرصة نحيلة أخيرة للنجاة.   


من أهم الأعمال المعروضة أيضاً هو تمثال المرأة الطويلة النحيلة المصبوبة من البرونز من مجسم طيني مضفور بخشونة، هذا التمثال الذي فار بمسابقة بينالي فينسيا 1956والذي لفت الإنتباه لجياكوميتي كفنان مجدد، تقف كأنها تتضرع للسماء بسكون أزلي في مواجهة الزائرين المتفرسين بها من جميع جهاتها.
يكاد لا يخلو متحف من متاحف الفن الحديث من مجسمات جياكوميتي البرونزية هذه، لكن الجميل في هذا المعرض إنه ليس تجميعاً لأعمال جياكوميتي البرونزية من متاحف العالم، بل هو معرض عن جياكوميتي الأنسان  والناس الذين أثروا وأثروا بحياته وعن العاطفة والشعور بالإنتماء والشغف الانساني الذي من خلاله إستطاع هذا العبقري السويسري خلق رؤيته الملتبسة للجسم البشري.
القاعة الثانية لهذا المعرض خُصصتْ للفوتغراف، صورة للبيت الكبير على قمة التل في منطقة الألباين السويسرية  حيث الذي ولد جياكوميتي عام 1901 وتربى وحيث سيعود دائماً لهذا البيت، صورة أخرى تجمعه بوالديه وأخويه وأخته وهو طفل، صورة لمشغله في باريس قبل الحرب وصورة اخرى تجمعه مع السورياليين. صورة لأمه (أنيت) التي ربطته بها عاطفة قوية  جالسة وسط مشغله، كما فعل مع أخيه دييغو، لم يكف جياكوميتي عن رسم ونحت أمه التي أحبها جدا طوال حياته، في البورتريت الذي رسمه لها عام 1947 تبدو كأنها تضمحل وتتلاشى وتنزلق بعيدا عنه الى عالم غابر، هيئة شبحية وسط محيط من ظلال نحاسية كأنه تنبأ بموتها في هذه اللوحة.  صورة زواجه من موديله وحبيبته (أنيت آرم) عام 1946 ، صورة اخرى مع عشيقته الباريسية كارولين عام 1962 .        


فرصة نادرة أتاحتها إدارة الناشونال بوتريت،  للزائر كي يشاهد أعمال ألبرتو جياكوميتي الاولى، منحوتاته الاولى متأثرة بفنان عصر النهضة الايطالي (دوناتلو 1386-1466 )، حيث شاهد جياكوميتي تماثيله في زيارة له الى فلونسا عام 1920، أما لوحاته الأولى فهي بلا شك متأثرة بإسلوب أبيه الذي ينتمي الى مرحلة ما بعد الأنطباعية.
 هذا المعرض يقربنا من جياكوميتي الإنسان بعيدا عن رواد الصرعات الفنية البوهيميين الذين عكس فنهم أفكارهم الباريسية في بداية القرن العشرين. جياكوميتي كان وثيق الإرتباط بعائلته، كان يعود دائما الى سويسرا  والى البيت الذي ولد فيه، ودائما يرسم اللوحات تلو اللوحات لأفراد عائلته ولأصدقائه مثل الشاعر اليساري لوريس أراغون والكاتب البوهيمي جان جينيه.
كأنه كان مهوسا بعمل فني بسيط جدا وهو تدوين ملامح الناس القريبين عليه، هذا الهوس يجري كنهر من الأعمال الفنية عبر هذا المعرض ومن قاعة الى اخرى. ليس مهما اذا كان جياكوميتي ينحت تمثال نصفي لأبيه الملتح أو يرسم وجه اخته  الشهواني والصارم في آن واحد. انه لا يستخدم موديله كأداة لإستعراض إمكانياته الفنية، هو بكل بساطة يحاول أن يكون محايدا وعقلانياً، وينحاز لفنه فقط.    


Saturday, 13 February 2016

غويا آخر الكلاسيكيين ورائد التعبيرية


غويا آخر الكلاسيكيين ورائد التعبيرية 



يتيح الناشنول كالري في لندن فرصة  نادرة لزواره لمشاهدة معرض ( غويا الصور الشخصية)، حيث تجمع إدارة الكالري 70 لوحة بورتريت لغويا، تستعيرها من المتاحف في أنحاء العالم.
فرانسيسكو غويا المولود عام 1746 في مقاطعة الأرغون الإسبانية يُعَدُ أهم الفنانين الإسبان في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، الفنان الذي صور في لوحاته الفنية  كل تفاصيل البلاط الملكي بحكم منصبه  كرسام القصر،  لكنه صور ووثق أغلب الأحداث التاريخية الكبرى في عهده، مثل المقاومة التي واجهت نابليون أثناء إجتياحه لإسبانيا، كما في لوحته المشهورة (الثالت من مايو/ 1808).  غويا رسام الكوابيس الليلية السوداء والكائنات المشوهه والأشباح والشياطين، أثر بأجيال لاحقة من الفنانين منهم بيكاسو ومانيه كما ألهمت ثيمات جدارياته الكابوسيه السورياليين وتحديداً سلفادور دالي.
 يشعر الزائر إن جدران الجناح  حيث يقام هذا المعرض مشبعة بروح الفن الكلاسكي، تماماً مثلما  تشبعت ذات الجدران بنفس الروح في معرض رامبرانت المذهل في بداية عام 2015 ، حيث رُتبتْ قاعات العرض السفلى باللوحات  والبورتريهات التي توثق التفاصيل اليومية للطبقة الأرستقراطية والأمراء والملوك في إسبانيا خلال الفترة النابولونية.
إمتلك غويا موهبة سبر أغوار الشخصية موضوع اللوحة أو ربما رؤية  سايكولوجية فريدة لا تقتصر على الملامح فقط بل تتعداها الى الهيئة الكلية للشخصية  ومن هنا تكمن أهمية هذه البورتريهات التي تشبه أصلها  لكنها غريبة عنه بذات الوقت. براعة غويا في فن البورتريت أهلته أن يصبح رسام القصر الملكي الأول وكان قبل ذلك رسام للعديد من العوائل الأرستقراطية والشخصيات التنويرية. براعته الفنية مكنته أيضاً من النجاة  بشكل ما خلال حقبة إحتلال نابليون لإسبانيا التي تعتبر من أكثر الحقب إضطراباً.
يستقبل الزائرون في القاعة الاولى بورتريت شخصي لغويا يعود الى عام 1780، كأنه يرحب بالزوار بنظرته المركزة وشعره الأسود، ويدعوهم الى الدخول الى تفاصيل الحياة الإسبانية خلال القرن الثامن عشر. يتزاحم الزائرون حول لوحة (عائلة دون لويس دي بوربون/ 1784) وهي لوحة كبيرة وأول  بورتريت رسمها غويا، ويبدو فيها الأمير دون لويس وعائلته في مشهد يومي عادي، خادمة تمشط  شعر الزوجة الأميرة  بينما الأمير يمارس لعبة الورق على منضدة، يقلد غويا في هذه اللوحة "بطريقته" أستاذه فيلاسكوز،  فهو يرسم نفسه داخل اللوحة أثناء رسمه لعائلة الأمير، يضع نفسه في الجانب الأيمن (مبعث الضوء) الذي ينير بقية تفاصيل اللوحة،  وكما في لوحة فيلاسكوز(وصيفات الشرف/ 1656) ، تبدو الطفلة الأميرة(رمز البراءة) قريبة من الفنان (مصدر الضوء)، هناك طاقة حركية وحيوية مذهلة في هذه اللوحة  تطغي حتى على الألوان.    
 لوحة (دوق ودوقة أوسونا /1788 )، فيها من الكثير من الرقة والحنان كما في انحناءة وقفة الدوق الاب وهو يمسك يد طفلته، رغم العيون المفتوحة  لهذه العائلة التي تجعلهم بهيئة تماثيل بشرية او آلهة، يصور غويا في هذه اللوحة أيضا اللعب التي كان يلهو بها اطفال العوائل الأرستقراطية كما إنه يوثق للأزياء وتسريحات الشعر والإكسسوارات والأثاث.  
في القاعة الاولى ايضا، لوحة  شائعة للملك شارل الثالث(1716-1788)  الذي إشتهر بقبحه لكن غويا يظهره  بمظهر بسيط مسترخٍ وبملابس الصيد بعيداً عن الرداء الملكي والأوسمة، كأن الفنان أراد أن يقرب بين الملك ورعيته بان يرسم الملك، إنساناً أولاً. 

 رسام الشخصيات التنويرية الاسبانية
عام 1785 عُين غويا رئيساً لأكاديمية سانت فرناندو الملكية للفنون، وعام 1786 أصبح الرسام الرسمي للملك.   لكنه أيضا كان  جزءاً من الحركة التنويرية السياسية والاجتماعية التي شهدتها اسبانيا خلال بين عامي (1797_1798 ) في عهد الملك شارل الثالث، وكثيرا من اصدقاء غويا ومجايليه مُنِحوا مناصب مهمة في إدارة الدولة كجزء من سياسة الإصلاحات التي قام بها الملك نتيجة مدّ الثورة الفرنسية.  
لوحتان مقترنتان ببعض رسمهما غويا بالتعاقب، مرسموتان بدقة في إلتقاط التفاصيل، بلمسة إنطباعية وانسياب فريد، تصوران إثنين من أبرز الإصلاحين الإسبان في القرن الثامن عشر، لوحة المفكر المهموم (كاسبار ملكور دي جوفيليانوس/ 1798) الذي إستدعي من منفاه ليصبح وزيرا للعدل، ولوحة (فرانسيسكو دي سافدرا/1798) وهو خبير إقتصادي ليبرالي مُنح منصب وزير الاقتصاد. كلا الرجلين يبدو بوقار كبير،  جالسين في مكان عملهما أمام طاولة كبيرة وأوراق، غويا يسحبنا بلا وعي منا الى المقارنة بين اللوحتين، فوزير العدل يجلس جلسة مفكر كأنه يحاور أفكاره ، منحني الظهر ويسند رأسه بيده، بينما نرى وزير الاقتصاد يجلس بتوثب، مستقيم الظهر كأنه يتأهب للوقوف. اللوحة الأولى لرجل يفكر بينما الثانية لرجل يعمل، اللوحتان تعرضان معا للمرة الاولى حيث جمعتا من متحف البرادو في مدريد والثانية من كالري الكورتولد في لندن .   
هناك إختلاف بَيّن في إسلوب تصوير الشخصيات، تبدو الألوان والخطوط  وضربات الفرشاة مسترخية وهادئة  حين يرسم الفنان أصدقائه،  بينما يبدو أكثر تشجناً حين يرسم أفراد العائلة المالكة والاقطاعيين الإرستقراطيين. 


 تحلق الزائرون أيضاً أمام لوحة ( دوقة إلبا/ 1797 )، واقفة بثوب أسود من الدانتيل مع تسريحة شعر عالية ووشاح أحمر في خصرها، وخلفها نهر وأراض شاسعة تعود لها، رغم  جمالها المتواضع  لكنها تبدو قاسية الملامح ومعتدة بنفسها، تقف بإنحناءة حميمية إحدى يديها مزينة بخواتم تشير الى الرمل حيث تقف، مكتوب على الرمل (غويا فقط)، هذه العبارة تُحمَلْ على مضمورين أو كلاهما فهي تشير الى علاقة حميمية بينها وبين الرسام ومن ناحية أخرى الى إعتداد الفنان باسمه، حيث يصبح الاسم ثيمة موحية  في كلية اللوحة.  
 لوحة (فرديناند السابع في الرداء الملكي/ 1814 ) وهي اللوحة التي أعقبت عودة فريدناند من منفاه وإستناف غويا عمله كرسام أول في القصر، من أبرز مهامه رسم صورة رسمية للملك فرديناند بالرداء الملكي والصولجان الذي هو تعبير عن السيادة التي إغتصبها نابليون ثم أُعيدتْ له بفضل تدخل الجنرال الإنكليزي ولنغتون (يعرض له بورتريت أيضا) وجيشه وطرده للفرنسيين. يصور غويا يد الملك وهي تقبض على السيف المعلق الى خصره، توحي بالنفوذ والقوة المطلقة،  ورغم التفاصيل المزركشة والمبهرة الألون في هذا البوتريت، يبدو غويا كأنه يسخر من الملك، فقد أعاد هذا الملك سلطة محاكم التفتيش وإعتقل الكثير من أصدقاء غويا، شعر الملك الفاحم الذي يؤطر وجهه الخبيث، أنفه المفلطح، والذقن المربع الناتئ، والنظرة التي تضمر الشر وإنعدام الأكتاف  كلها توحي بالسخرية وليس التبجيل.   



يودع  غويا زائريه في القاعة الأخيرة ببورتريت شخصي مثلما إستقبلهم، صورة له وهو على فراش المرض مع طبيبه (دكتور أريتا). عام 1819 أصيب غويا وهو بعمر الثالثة والسبعين بمرض غريب أفقده السمع وكاد يقتله وهذا البوتريت هو عرفان لجميل الطبيب الذي أنقذ حياته ويسميه (صديقي أريتا)، يصور غويا نفسه منهك وشاحب بفعل المرض بينما يصور طبيبه بإجلال، هذا الطبيب نفسه سيسافر لاحقا الى أفريقيا لعلاج الناس من وباء الطاعون لكنه لن يعود أبدا. البورتريت مشبع بالرقة والإنسانية يبدو فيه غويا ضعيفا على فراش مرضه يمسك بأغطية سريره بينما يسنده طبيبه بذراعه ويده الأخرى تقدم له الدواء،  هناك هيئات غامضة تقف بالعتمة خلف السرير، أحدها على شكل راهب يحمل وعاء  كأنه يتأهب لتأدية طقس ديني، أو قد يكونون هيئات شيطانية تنتظر أن تخطف روح الفنان. البورتريت ربما يكون بداية للجداريات الضخمة التي رسمها لاحقاً والتي عُرفتْ باسم كوابيس غويا. يوضح هذا البوتريت التناقض الذي يعتمل داخل الروح القلقة لهذا الفنان فهو رجل يؤمن بالسحر والملائكة والشياطين ومن جهة اخرى كان إبن عصره ويثق بالعلم والطب. 
 بورتريهات غويا مباشرة وغير مثيرة للجدل كما أعماله السوداء، تمنحنا القدرة على تتبع تطور أساليبه التعبيرية والفنية وعلى تتبع حياته الشخصية،  فقد كان من مؤيدي الفكر التنويري والإصلاحات، وهو أيضا رجل عائلة وصديق مخلص وإنسان يجد متعته الحقيقية في تصوير تفاصيل الناس وحياتهم. يُعد هذا العرض المخصص لبورتريهات غويا بحق أهم عروض نهاية سنة 2015  في العاصمة البريطانية، فهو يستدعي فنان كلاسيكي لكنه ثائر على تقاليد الرسم بذات الوقت وهو المبشر الحقيقي للمدرسة التعبيرية، حين بلغ 74 من عمره كان أصم تماماً ونص مجنون لكنه كان حاد البصر كي يستقرأ نهايته ويخلدها بلوحاته.

نشر المقال في صحيفة الشرق الأوسط