معرض
النحات العالمي ألبرتو جياكوميتي
عام
1919 سأل جيوفاني جياكوميتي الرسام السويسري ما بعد الإنطباعي إبنه البكر ألبرتو
" هل تريد أن تصبح رساماً؟" كان جواب الأبن سؤالاً أيضا، لنفسه وليس
لأبيه " رساماً أم نحاتاً؟".
ميزة
المعرض الذي أقامه الناشنول بورتريت كالري في لندن وبعنوان (الحضور النقي) إنه لا
يروي بإسلوب أكاديمي جاف السيرة الفنية لألبرتو جياكوميتي الذي يعد أهم نحاتي القرن
العشرين، وكأن الفنان يعيش في عزلة، أو كأن الإبداع الفني لعبة فلسفية سامية بعيدة
عن الواقع. وعبر هذا المنظور فان الزائر سوف يعي إن جياكوميتي بدأ مشواره الفني
كواحد من السوريالين أمثال آندريه بريتون، خوان ميرو، بيكاسو، وماكس إرنست الذين
تعرض صورهم الشخصية مع جياكوميتي في القاعة الثانية من المعرض المخصصة للصور
الفوتغرافية، لكن جياكوميتي رفض الأفكار الفرويدية لاحقا وتبنى الإسلوب الرمزي،
رغم انه أبدع منحوتات سوريالية مدهشة مثل عمله النحتي المروع (أمراة محزوزة الرقبة
/1932).
الزائرلهذا المعرض لن يعثر على منحوتات
جياكوميتي السوريالية أوالمرعبة، لكنه سيكتشف وجهاً آخر لهذا الفنان، وقصة اخرى لا
تركز على مرحلة باريس التي كان جياكوميتي أبرز رموزها الفنية بعد وقبل الحرب
العالمية الثانية . هذا المعرض يروي سيرة علاقته الحميمة مع أمه وأبيه وإخوانه
وزوجته وأصدقائه.
يبدأ هذا العرض حيث ولد ألبرتو جياكوميتي في
مقاطعة (ألباين) في سويسرا عام 1901 المتاخمة للحدود الإيطالية، بدأ الرسم حين كان
في العاشرة بتشجيع من أبيه، في القاعة الأولى يُعرض أول تمثال له وهو رأس برونزي
لأخيه دييغو، نحته حين كان في الثالثة عشر من عمره، وخلال أربعة عقود سيستمر
جياكوميتي بنحت تماثيل لأخيه، حيث يعرض
التمثال النصفي المذهل لدييغو 1955 في
القاعة الأخيرة من المعرض، حيث يضع جياكوميتي رأساً حاداً رقيقاً فوق جزءا علويا
لجسم نحيل أيضا، لكنه يستعمل الزوايا المضادة في هذا العمل، فالزائر إما سيرى وجهاً
بملامح كاملة فوق أكتاف مسطحة أو وجهاً حاداً مثل شفرة سكين فوق إسطوانة الصدر
البرونزية الكبيرة. قد يثير هذا العمل الضحك وأيضا قد يثير السؤال والغور في لغز
تضاد الزوايا هذا. لايمكن أن يُختزل فنان
ما في عمل واحد لكن جياكوميتي كان يرسم ويخطط وينحت تماثيل لأخيه دييغو طوال
حياته كأنه أراد أن يقبض على كينونة أخيه
الإنسانية، لكنه كلما شعر بالعجز (أو هكذا خيل إليه) يستمر في نحت ورسم دييغو مرارا وتكراراً، فالإنسان عصي على
التوصيف.
في
سنواته الاخيرة 1960-1965 كان ألبرتو جياكوميتي مهووسا برسم حبيبته الشابة المتمردة
(ايفون بويرادو) التي أطلق عليها في لوحاته اسم كارولين، عاشت كارولين وسط المجتمع
الوجودي والبوهيمي الباريسي مع بائعات الهوى وعصابات الإحتيال والسرقة وموجة
السينما الجديدة.
عُلقت
لوحات كارولين التي تبدو للزائر كأنها لقى أثرية، مع بعضها في القاعة الأخيرة للمعرض،
تبدو ملامح كارولين كأنها منسوجة بخطوط الفرشاة
مثل شبكة عنكبوتية تتدلى منها خيوط متموجة من البني والرمادي، كارولين التي أنقذها
جياكوميتي الذي كان في أوج شهرته الفنية حينئذ، من السجن بتهمة السرقة، ولم يتوقف
عند هذا الحد بل أسبغ عليها بلوحاته كبرياء وأنفة وصورها كأنها أميرة تائهة في
الدهر، أو كأنها ملكة فرعونية مجهولة، كارولين تلك الفتاة المشردة المنسية أخذت
مكانها في الخلود مثل المومياءات المصرية المحفوظة جيدا عن التحلل، كصورة ورمز
مهيب للغز البقاء الذي لا بديل للانسان عنه.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت أوربا مقبرة
طازجة لا تزال تربتها هشة من دفن الموتى والأنقاض التي خلفتها الحرب، وفي باريس تحديدا،
كان جياكوميتي الفنان الوحيد الذي وجد شيئاً جديداً لكي يقوله يوازي رعب الموت
والفناء، وعَبَرَ بفنه عن جسامة الحدث الذي تعرضت له أوربا في الحرب الثانية. لقد
حفر فن جياكوميتي المختلف جوهر الانسان، بدائيته وغريزته النيئة، ببديهية بسيطة
جدا لكنها حيوية ومدهشة ، هذه الحيوية الانسانية المتجلية في منحوتات ألبرتو جياكوميتي، أصبحت بعد
سنوات الخراب والحرب تلك، صورة جديدة للأمل المنشود، كأنها فرصة نحيلة أخيرة للنجاة.
من
أهم الأعمال المعروضة أيضاً هو تمثال المرأة الطويلة النحيلة المصبوبة من البرونز
من مجسم طيني مضفور بخشونة، هذا التمثال الذي فار بمسابقة بينالي فينسيا 1956والذي
لفت الإنتباه لجياكوميتي كفنان مجدد، تقف كأنها تتضرع للسماء بسكون أزلي في مواجهة
الزائرين المتفرسين بها من جميع جهاتها.
يكاد
لا يخلو متحف من متاحف الفن الحديث من مجسمات جياكوميتي البرونزية هذه، لكن الجميل
في هذا المعرض إنه ليس تجميعاً لأعمال جياكوميتي البرونزية من متاحف العالم، بل هو
معرض عن جياكوميتي الأنسان والناس الذين
أثروا وأثروا بحياته وعن العاطفة والشعور بالإنتماء والشغف الانساني الذي من خلاله
إستطاع هذا العبقري السويسري خلق رؤيته الملتبسة للجسم البشري.
القاعة الثانية لهذا المعرض
خُصصتْ للفوتغراف، صورة للبيت الكبير على قمة التل في منطقة الألباين السويسرية حيث الذي ولد جياكوميتي عام 1901 وتربى وحيث
سيعود دائماً لهذا البيت، صورة أخرى تجمعه بوالديه وأخويه وأخته وهو طفل، صورة
لمشغله في باريس قبل الحرب وصورة اخرى تجمعه مع السورياليين. صورة لأمه (أنيت)
التي ربطته بها عاطفة قوية جالسة وسط
مشغله، كما فعل مع أخيه دييغو، لم يكف جياكوميتي عن رسم ونحت أمه التي أحبها جدا
طوال حياته، في البورتريت الذي رسمه لها عام 1947 تبدو كأنها تضمحل وتتلاشى وتنزلق
بعيدا عنه الى عالم غابر، هيئة شبحية وسط محيط من ظلال نحاسية كأنه تنبأ بموتها في
هذه اللوحة. صورة زواجه من موديله وحبيبته
(أنيت آرم) عام 1946 ، صورة اخرى مع عشيقته الباريسية كارولين عام 1962 .
فرصة
نادرة أتاحتها إدارة الناشونال بوتريت،
للزائر كي يشاهد أعمال ألبرتو جياكوميتي الاولى، منحوتاته الاولى متأثرة
بفنان عصر النهضة الايطالي (دوناتلو 1386-1466 )، حيث شاهد جياكوميتي تماثيله في
زيارة له الى فلونسا عام 1920، أما لوحاته الأولى فهي بلا شك متأثرة بإسلوب أبيه
الذي ينتمي الى مرحلة ما بعد الأنطباعية.
هذا
المعرض يقربنا من جياكوميتي الإنسان بعيدا عن رواد الصرعات الفنية البوهيميين
الذين عكس فنهم أفكارهم الباريسية في بداية القرن العشرين. جياكوميتي كان وثيق الإرتباط
بعائلته، كان يعود دائما الى سويسرا والى
البيت الذي ولد فيه، ودائما يرسم اللوحات تلو اللوحات لأفراد عائلته ولأصدقائه مثل
الشاعر اليساري لوريس أراغون والكاتب البوهيمي جان جينيه.
كأنه
كان مهوسا بعمل فني بسيط جدا وهو تدوين ملامح الناس القريبين عليه، هذا الهوس يجري
كنهر من الأعمال الفنية عبر هذا المعرض ومن قاعة الى اخرى. ليس مهما اذا كان
جياكوميتي ينحت تمثال نصفي لأبيه الملتح أو يرسم وجه اخته الشهواني والصارم في آن واحد. انه لا يستخدم
موديله كأداة لإستعراض إمكانياته الفنية، هو بكل بساطة يحاول أن يكون محايدا وعقلانياً،
وينحاز لفنه فقط.
No comments:
Post a Comment