Saturday, 13 February 2016

غويا آخر الكلاسيكيين ورائد التعبيرية


غويا آخر الكلاسيكيين ورائد التعبيرية 



يتيح الناشنول كالري في لندن فرصة  نادرة لزواره لمشاهدة معرض ( غويا الصور الشخصية)، حيث تجمع إدارة الكالري 70 لوحة بورتريت لغويا، تستعيرها من المتاحف في أنحاء العالم.
فرانسيسكو غويا المولود عام 1746 في مقاطعة الأرغون الإسبانية يُعَدُ أهم الفنانين الإسبان في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، الفنان الذي صور في لوحاته الفنية  كل تفاصيل البلاط الملكي بحكم منصبه  كرسام القصر،  لكنه صور ووثق أغلب الأحداث التاريخية الكبرى في عهده، مثل المقاومة التي واجهت نابليون أثناء إجتياحه لإسبانيا، كما في لوحته المشهورة (الثالت من مايو/ 1808).  غويا رسام الكوابيس الليلية السوداء والكائنات المشوهه والأشباح والشياطين، أثر بأجيال لاحقة من الفنانين منهم بيكاسو ومانيه كما ألهمت ثيمات جدارياته الكابوسيه السورياليين وتحديداً سلفادور دالي.
 يشعر الزائر إن جدران الجناح  حيث يقام هذا المعرض مشبعة بروح الفن الكلاسكي، تماماً مثلما  تشبعت ذات الجدران بنفس الروح في معرض رامبرانت المذهل في بداية عام 2015 ، حيث رُتبتْ قاعات العرض السفلى باللوحات  والبورتريهات التي توثق التفاصيل اليومية للطبقة الأرستقراطية والأمراء والملوك في إسبانيا خلال الفترة النابولونية.
إمتلك غويا موهبة سبر أغوار الشخصية موضوع اللوحة أو ربما رؤية  سايكولوجية فريدة لا تقتصر على الملامح فقط بل تتعداها الى الهيئة الكلية للشخصية  ومن هنا تكمن أهمية هذه البورتريهات التي تشبه أصلها  لكنها غريبة عنه بذات الوقت. براعة غويا في فن البورتريت أهلته أن يصبح رسام القصر الملكي الأول وكان قبل ذلك رسام للعديد من العوائل الأرستقراطية والشخصيات التنويرية. براعته الفنية مكنته أيضاً من النجاة  بشكل ما خلال حقبة إحتلال نابليون لإسبانيا التي تعتبر من أكثر الحقب إضطراباً.
يستقبل الزائرون في القاعة الاولى بورتريت شخصي لغويا يعود الى عام 1780، كأنه يرحب بالزوار بنظرته المركزة وشعره الأسود، ويدعوهم الى الدخول الى تفاصيل الحياة الإسبانية خلال القرن الثامن عشر. يتزاحم الزائرون حول لوحة (عائلة دون لويس دي بوربون/ 1784) وهي لوحة كبيرة وأول  بورتريت رسمها غويا، ويبدو فيها الأمير دون لويس وعائلته في مشهد يومي عادي، خادمة تمشط  شعر الزوجة الأميرة  بينما الأمير يمارس لعبة الورق على منضدة، يقلد غويا في هذه اللوحة "بطريقته" أستاذه فيلاسكوز،  فهو يرسم نفسه داخل اللوحة أثناء رسمه لعائلة الأمير، يضع نفسه في الجانب الأيمن (مبعث الضوء) الذي ينير بقية تفاصيل اللوحة،  وكما في لوحة فيلاسكوز(وصيفات الشرف/ 1656) ، تبدو الطفلة الأميرة(رمز البراءة) قريبة من الفنان (مصدر الضوء)، هناك طاقة حركية وحيوية مذهلة في هذه اللوحة  تطغي حتى على الألوان.    
 لوحة (دوق ودوقة أوسونا /1788 )، فيها من الكثير من الرقة والحنان كما في انحناءة وقفة الدوق الاب وهو يمسك يد طفلته، رغم العيون المفتوحة  لهذه العائلة التي تجعلهم بهيئة تماثيل بشرية او آلهة، يصور غويا في هذه اللوحة أيضا اللعب التي كان يلهو بها اطفال العوائل الأرستقراطية كما إنه يوثق للأزياء وتسريحات الشعر والإكسسوارات والأثاث.  
في القاعة الاولى ايضا، لوحة  شائعة للملك شارل الثالث(1716-1788)  الذي إشتهر بقبحه لكن غويا يظهره  بمظهر بسيط مسترخٍ وبملابس الصيد بعيداً عن الرداء الملكي والأوسمة، كأن الفنان أراد أن يقرب بين الملك ورعيته بان يرسم الملك، إنساناً أولاً. 

 رسام الشخصيات التنويرية الاسبانية
عام 1785 عُين غويا رئيساً لأكاديمية سانت فرناندو الملكية للفنون، وعام 1786 أصبح الرسام الرسمي للملك.   لكنه أيضا كان  جزءاً من الحركة التنويرية السياسية والاجتماعية التي شهدتها اسبانيا خلال بين عامي (1797_1798 ) في عهد الملك شارل الثالث، وكثيرا من اصدقاء غويا ومجايليه مُنِحوا مناصب مهمة في إدارة الدولة كجزء من سياسة الإصلاحات التي قام بها الملك نتيجة مدّ الثورة الفرنسية.  
لوحتان مقترنتان ببعض رسمهما غويا بالتعاقب، مرسموتان بدقة في إلتقاط التفاصيل، بلمسة إنطباعية وانسياب فريد، تصوران إثنين من أبرز الإصلاحين الإسبان في القرن الثامن عشر، لوحة المفكر المهموم (كاسبار ملكور دي جوفيليانوس/ 1798) الذي إستدعي من منفاه ليصبح وزيرا للعدل، ولوحة (فرانسيسكو دي سافدرا/1798) وهو خبير إقتصادي ليبرالي مُنح منصب وزير الاقتصاد. كلا الرجلين يبدو بوقار كبير،  جالسين في مكان عملهما أمام طاولة كبيرة وأوراق، غويا يسحبنا بلا وعي منا الى المقارنة بين اللوحتين، فوزير العدل يجلس جلسة مفكر كأنه يحاور أفكاره ، منحني الظهر ويسند رأسه بيده، بينما نرى وزير الاقتصاد يجلس بتوثب، مستقيم الظهر كأنه يتأهب للوقوف. اللوحة الأولى لرجل يفكر بينما الثانية لرجل يعمل، اللوحتان تعرضان معا للمرة الاولى حيث جمعتا من متحف البرادو في مدريد والثانية من كالري الكورتولد في لندن .   
هناك إختلاف بَيّن في إسلوب تصوير الشخصيات، تبدو الألوان والخطوط  وضربات الفرشاة مسترخية وهادئة  حين يرسم الفنان أصدقائه،  بينما يبدو أكثر تشجناً حين يرسم أفراد العائلة المالكة والاقطاعيين الإرستقراطيين. 


 تحلق الزائرون أيضاً أمام لوحة ( دوقة إلبا/ 1797 )، واقفة بثوب أسود من الدانتيل مع تسريحة شعر عالية ووشاح أحمر في خصرها، وخلفها نهر وأراض شاسعة تعود لها، رغم  جمالها المتواضع  لكنها تبدو قاسية الملامح ومعتدة بنفسها، تقف بإنحناءة حميمية إحدى يديها مزينة بخواتم تشير الى الرمل حيث تقف، مكتوب على الرمل (غويا فقط)، هذه العبارة تُحمَلْ على مضمورين أو كلاهما فهي تشير الى علاقة حميمية بينها وبين الرسام ومن ناحية أخرى الى إعتداد الفنان باسمه، حيث يصبح الاسم ثيمة موحية  في كلية اللوحة.  
 لوحة (فرديناند السابع في الرداء الملكي/ 1814 ) وهي اللوحة التي أعقبت عودة فريدناند من منفاه وإستناف غويا عمله كرسام أول في القصر، من أبرز مهامه رسم صورة رسمية للملك فرديناند بالرداء الملكي والصولجان الذي هو تعبير عن السيادة التي إغتصبها نابليون ثم أُعيدتْ له بفضل تدخل الجنرال الإنكليزي ولنغتون (يعرض له بورتريت أيضا) وجيشه وطرده للفرنسيين. يصور غويا يد الملك وهي تقبض على السيف المعلق الى خصره، توحي بالنفوذ والقوة المطلقة،  ورغم التفاصيل المزركشة والمبهرة الألون في هذا البوتريت، يبدو غويا كأنه يسخر من الملك، فقد أعاد هذا الملك سلطة محاكم التفتيش وإعتقل الكثير من أصدقاء غويا، شعر الملك الفاحم الذي يؤطر وجهه الخبيث، أنفه المفلطح، والذقن المربع الناتئ، والنظرة التي تضمر الشر وإنعدام الأكتاف  كلها توحي بالسخرية وليس التبجيل.   



يودع  غويا زائريه في القاعة الأخيرة ببورتريت شخصي مثلما إستقبلهم، صورة له وهو على فراش المرض مع طبيبه (دكتور أريتا). عام 1819 أصيب غويا وهو بعمر الثالثة والسبعين بمرض غريب أفقده السمع وكاد يقتله وهذا البوتريت هو عرفان لجميل الطبيب الذي أنقذ حياته ويسميه (صديقي أريتا)، يصور غويا نفسه منهك وشاحب بفعل المرض بينما يصور طبيبه بإجلال، هذا الطبيب نفسه سيسافر لاحقا الى أفريقيا لعلاج الناس من وباء الطاعون لكنه لن يعود أبدا. البورتريت مشبع بالرقة والإنسانية يبدو فيه غويا ضعيفا على فراش مرضه يمسك بأغطية سريره بينما يسنده طبيبه بذراعه ويده الأخرى تقدم له الدواء،  هناك هيئات غامضة تقف بالعتمة خلف السرير، أحدها على شكل راهب يحمل وعاء  كأنه يتأهب لتأدية طقس ديني، أو قد يكونون هيئات شيطانية تنتظر أن تخطف روح الفنان. البورتريت ربما يكون بداية للجداريات الضخمة التي رسمها لاحقاً والتي عُرفتْ باسم كوابيس غويا. يوضح هذا البوتريت التناقض الذي يعتمل داخل الروح القلقة لهذا الفنان فهو رجل يؤمن بالسحر والملائكة والشياطين ومن جهة اخرى كان إبن عصره ويثق بالعلم والطب. 
 بورتريهات غويا مباشرة وغير مثيرة للجدل كما أعماله السوداء، تمنحنا القدرة على تتبع تطور أساليبه التعبيرية والفنية وعلى تتبع حياته الشخصية،  فقد كان من مؤيدي الفكر التنويري والإصلاحات، وهو أيضا رجل عائلة وصديق مخلص وإنسان يجد متعته الحقيقية في تصوير تفاصيل الناس وحياتهم. يُعد هذا العرض المخصص لبورتريهات غويا بحق أهم عروض نهاية سنة 2015  في العاصمة البريطانية، فهو يستدعي فنان كلاسيكي لكنه ثائر على تقاليد الرسم بذات الوقت وهو المبشر الحقيقي للمدرسة التعبيرية، حين بلغ 74 من عمره كان أصم تماماً ونص مجنون لكنه كان حاد البصر كي يستقرأ نهايته ويخلدها بلوحاته.

نشر المقال في صحيفة الشرق الأوسط 

No comments:

Post a Comment