من مونيه الى فان كوغ
ما الذي يجمع مدارس الفن الحديث بالحدائق ؟ الحداثة
جامحة ، خطرة ومستفزة، بينما الحداثق هادئة وحميمية وتحتل غالبا هامش حياتنا وليس
جوهرها وهي ترمز الى الحكمة والسلام والسكون. لكن هدف المعرض الضخم الذي تنظمه الأكاديمية
الملكية للفن في لندن، إستعادة فن رسم الحدائق وفناني الحداثة الطليعين في التاريخ
الاوربي من 1860 الى 1920الذين رسموا الحدائق، رسالة هذا المعرض تتوخى الوصول
لمدمني الحداثة بكل ما تعنيه من وسائل مدنية سريعة ومتغيرة على الدوام في عصر الآلات،
وفحوى الرسالة، إن ثمة فنانين هجروا المدن بكل صخبها وفضلوا العيش في هدوء بين
مشاتل الزهور، والطرق الحجرية التي تخترق الحدائق والحقول وزخرفة النباتات
المتسلقة على الجدران والسقوف.
إستدار بعض هؤلاء الفنانين نحو الحدائق كي ينعموا بالسلام
والسكون ولغرض إستكشاف المزيد من تقلبات الضوء واللون في الطبيعة، بعضهم كان مهووس
وخبير بالحدائق وتنظيمها وزراعة الزهور والنباتات خلال حقبة نهاية القرن التاسع
عشر، عندما غدت مهنة البستنة مربحة وتدر بعض المال لإعالة عائلة. في حين أصبحت للطبقة
المتوسطة في المجتمع في أوربا نهاية القرن التاسع عشر، القدرة على إنشاء حدائق
للترفيه أكثر منها حقول لزراعة المواد الغذائية.
الإنطباعي الكبير كلود مونيه هو بلا شك سنام رسامي
الحدائق، مونيه وحديقته الرائعة في قرية جفرني في النورماندي شمال فرنسا حيث قضى
الاربعين سنة الاخيرة من حياته وحيث رسم لوحاته الاخيرة في هذه المنطقة، له الحصة
الأكبر من لوحات المعرض، ويصل هذا العرض ذروته في قاعته الأخيرة التي تعرض أربع
لوحات من زنابقه الكبيرة المسماة بركة الزنابق وهي من أعماله الاخيرة. كان كلود
مونيه مهووسا بالحدائق منذ إنتقاله من باريس الى قرية أرغنتويل عام 1873وهي الان إحدى
ضواحي باريس الشمالية وقد رسم مونيه حديقة أرغنتويل في تلك السنة واللوحة معروضة في
القاعة الاولى، وتلك الحديقة لها ألفة وحيوية لا تقاوم، واجهة اللوحة مزدحمة بغابة
من زهور الداليا في أوج تفتحها وفي خلفية اللوحة هناك رجل وإمراة على وشك العناق،
هذه اللوحة كانت جذرية بحداثتها في زمانها لتركيزها على حديقة منزلية متواضعة في
حين ظل الوجود البشري ثانويا.
رُتب المعرض بقاعات، كل قاعة تخصصت بعرض عدة فنانين وحسب
تطور إسلوب الإنطباعيين وتلامذتهم في أرجاء اوربا. في إسبانيا وألمانيا
واسكندنافيا كما في أمريكا التي تغذت من التفسيرات المختلفة لرواد الحداثة الفنية
في بداية القرن العشرين، لكن كلود مونيه ظل حاضراً في كل قاعة مع تطور إسلوبه
كفنان وكحدائقي.
(أنا
مدين للأزهار بكوني رساماً)
إحدى قاعات العرض خُصصتْ لرسائل مونيه التي كتبها عن
الحدائق وتبادلها مع اصدقائه مثل رينوار، وبعضها مرسوم الحواش بطريقة جميلة بما
يعبر عن محتوى الرسالة أو موسمها، هذه الرسائل مرتبة بين مزهريات زجاجية شفافة
لحفظ بذور الزهور كأن العرض يدخل الزائر الى جو البيوت الزجاجية للنباتات والإحساس
الطبيعي برطبوبتها ورائحة التربة، ويؤكد إن المعرض يستهدف محبي الحدائق والزهور والمهتمين
بالفن على حد سواء.
وعلى خطى مونيه سار الكثير من فناني القرن التاسع عشر وغادروا
المدن حالما إغتنوا وبدأو بانشاء منازل وحدائق لهم خارج المدن حيث يقضون البقية من
حياتهم في الرسم والعزلة ويولون إهتمامهم البصري الى الضوء الطبيعي ومساقطه على الطبيعة
والاشجار والزهور خلال تعاقب ساعات النهار والليل وتعاقب الفصول.
لوحة الفنان الفرنسي الإنطباعي غوستاف كايبوت 1848/1894
(زهور الداليا في حديقة جنيفير) تجعل المشاهد يشعر كأنه يمشي في ممر حجري ضيق وأمامه
بيت له نوافذ ضيقة وسقف قرميدي يسبح في ضوء الشمس والظل وفي واجهة اللوحة زهور
قرمزية كبيرة تلمع في الظلال المتموجة. لكن لوحة غوستاف كايبوت (جدار في حديقة خضروات
/1877) هي لوحة عادية سواءً لمحبي الفن او حتى لهواة الحدائق وهي فعلا تصف جدار في
حديقة ولا شيء أكثر.
في أرجاء العالم وعلى مدى التاريخ، دائما يذهب
الفنانون الى الطبيعة والحدائق. الفنان الإنطباعي الأمريكي الذي عاش في لندن (جون
سنغر سارجنت 1856/1925) حيث يصور الحدائق الإنكليزية بظلالها المعتمة، أو الفنان
الاسباني (جواكيم سورويا 1863/1923) الذي يصور الحدائق الأندلسية كحدائق قصر
الحمراء وحدائق قصر المحد في اشبيلية، لكن يبدو إن هذين الفنانان بقيا على هامش
جماعة الإنطباعيين الرواد مثل مونيه ورينوار وبيسارو.
الكثير من فناني القرن التاسع عشر والقرن العشرين
الرواد، إستداروا بنظرهم نحو الحدائق
كمكان لإستكشاف تغيرات وتقلبات اللون والضوء وكمكان للإلهام الذاتي أو
موضوع لمواجهة خيالهم وخوفهم في ذات الوقت. لوحة فان كوغ علىى سبيل المثال الموجعة
والتي رغم ألوانها المبهجة، فانها تشعرك أن الكرب يسيل منها مثل الاصفر الذي يطغى
على تفاصيلها، هذه الوحة رسمها فان غوغ لحديقة المصح النفسي في سانت ريمي، لا أدري
لماذا لم تاخذ هذه اللوحة شهرة كما غيرها من لوحات فان غوغ ، فعلا إنها واحدة من
اقوى إبداعاته وأكثرها حميمية وإلتباس، بينما حول ماتيس حدائق المغرب التي زارها
عام 1912 الى حقول مشبعة باللون معبداً الطريق الى أكثر الصرعات الفنية الحداثوية
مثل السوريالية والتجريدية، إدارة المعرض لم تركز على لوحة فان غوغ أو ماتيس في
المطبوع التعريفي مما يترك الزائر في حيرة من أمره.
المعرض يكافأ زوراره ويدهشهم بعرض لوحة الفنان الروسي وسيلي
كاندنسكي (حديقة مورنو 1910 )التي رسمها في قرية بفارية عندما كان على عتبة الدخول
في التجريد، اللوحة بتفاصيل وألوان مذهلة، تشيع إحساس لدى المتفرج ان ثمة حديقة ملونة
بشمس جبال الالب تميل نحوه. لوحتان صغيرتان للفنان التعبيري السويسري (بول كلي
1879/1940) حول فيهما الحديقة الى مكان للأحلام المزعجة والالوان النافرة مع أشكال
دائرية كأنها عين مسهدة، بينما لوحة الفنان النرويجي إداورد مونخ والفنان النمساوي
غوستاف كليمنت أخذتا منحنى بعيد جدا عن البهجة في تجريب ثيمة الحديقة وألوانها.
وفي قاعة عرض للفنان الفرنسي ما بعد الانطباعي بيير
بونارد والفنان إدوارد فويلارد يشعر الزائر كأنه يدخل الى حديقة حقيقية ويشارك
الأشخاص المرسمومين داخل اللوحات الشعور بالمرح، مثلأ في لوحة بونارد الباهتة
الالوان (صيف في النورماندي) هناك امرأتان تضطجعان في واجهة اللوحة كأنما يشعر
الزائر إن بإمكانه مد يده الى هذا المشهد المنقوع بشمش قائضة.
لكن
يبدو إن إدوارد مونيه هو بطل هذا المعرض، بدأنا به وإنتهينا به، قبل الدخول الى
القاعة الأخيرة هناك مقولة له : " أذا جاء هؤلاء البرابرة كي يقتلوني،
سيقتلوني وانا أمام لوحاتي، وأنا أرسم" كتبها أثناء الحرب الأولى حيث رفض مغادرة
منزله وحديقته في جفرني رغم إنه كان يسمع أصوات القذائف والمدافع في المعارك الدائرة
على مقربة من بيته، وببطء تحولت نظرته الفنية وإستكشافه لحديقته ونباتاتها
وألوانها اللامنتهي الى نظرة تجريدية خالصة، هناك تناقض جلّي بين لوحاته وهو يرسم
الجسر الياباني في إولى قاعات العرض وبين القاعة الاخيرة حيث جدارياته الضخمة (زنابق
البركة) تبدو هذه الجداريات تراكيب لونية من هياج غاضب مع دوامات من التكتلات البراقة
بالاحمر والاخضر، أربع جداريات ضخمة من ( زنابق البركة) حيث الأرض المحيطة
بالبركة تتلاشى نوعا ما ويذوب الوقت والفضاء
في ضوء وألوان متلألئة ، ثلاث من هذه الجداريات يحمل ذات العنوان وهي تعرض للمرة
الاولى في المملكة المتحدة حيث مقرها الدائم في متحف الاورنجري في باريس وهي أجمل
ابداعات مونيه بلا شك.
ان العلاقة بين رسم الحدائق تاريخياً وتكنولوجيا ليس فقط
لنقل متعة مشاهدة الحديقة الى المتلقي بل هي لذة الأندماج والموائمة بين الحسية
والبدنية، هوتحويل الضوء والطقس المحلي الى شي عالمي يجعل الصورة تفرض حضورها على
المتلقي اينما كان وفي أي وقت كان.
اللوحات المعروضة تمنحك الشعور انك تدخل حديقتك الخاصة
وتعطيك دفقة مركزة من السكون والتيه في نظرة ملونة مختلفة لهذا العالم.