Saturday, 30 April 2016

الحدائق في الفن الحديث

من مونيه الى فان كوغ 

ما الذي يجمع مدارس الفن الحديث بالحدائق ؟ الحداثة جامحة ، خطرة ومستفزة، بينما الحداثق هادئة وحميمية وتحتل غالبا هامش حياتنا وليس جوهرها وهي ترمز الى الحكمة والسلام والسكون. لكن هدف المعرض الضخم الذي تنظمه الأكاديمية الملكية للفن في لندن، إستعادة فن رسم الحدائق وفناني الحداثة الطليعين في التاريخ الاوربي من 1860 الى 1920الذين رسموا الحدائق، رسالة هذا المعرض تتوخى الوصول لمدمني الحداثة بكل ما تعنيه من وسائل مدنية سريعة ومتغيرة على الدوام في عصر الآلات، وفحوى الرسالة، إن ثمة فنانين هجروا المدن بكل صخبها وفضلوا العيش في هدوء بين مشاتل الزهور، والطرق الحجرية التي تخترق الحدائق والحقول وزخرفة النباتات المتسلقة على الجدران والسقوف.  
إستدار بعض هؤلاء الفنانين نحو الحدائق كي ينعموا بالسلام والسكون ولغرض إستكشاف المزيد من تقلبات الضوء واللون في الطبيعة، بعضهم كان مهووس وخبير بالحدائق وتنظيمها وزراعة الزهور والنباتات خلال حقبة نهاية القرن التاسع عشر، عندما غدت مهنة البستنة مربحة وتدر بعض المال لإعالة عائلة. في حين أصبحت للطبقة المتوسطة في المجتمع في أوربا نهاية القرن التاسع عشر، القدرة على إنشاء حدائق للترفيه أكثر منها حقول لزراعة المواد الغذائية. 
الإنطباعي الكبير كلود مونيه هو بلا شك سنام رسامي الحدائق، مونيه وحديقته الرائعة في قرية جفرني في النورماندي شمال فرنسا حيث قضى الاربعين سنة الاخيرة من حياته وحيث رسم لوحاته الاخيرة في هذه المنطقة، له الحصة الأكبر من لوحات المعرض، ويصل هذا العرض ذروته في قاعته الأخيرة التي تعرض أربع لوحات من زنابقه الكبيرة المسماة بركة الزنابق وهي من أعماله الاخيرة. كان كلود مونيه مهووسا بالحدائق منذ إنتقاله من باريس الى قرية أرغنتويل عام 1873وهي الان إحدى ضواحي باريس الشمالية وقد رسم مونيه حديقة أرغنتويل في تلك السنة واللوحة معروضة في القاعة الاولى، وتلك الحديقة لها ألفة وحيوية لا تقاوم، واجهة اللوحة مزدحمة بغابة من زهور الداليا في أوج تفتحها وفي خلفية اللوحة هناك رجل وإمراة على وشك العناق، هذه اللوحة كانت جذرية بحداثتها في زمانها لتركيزها على حديقة منزلية متواضعة في حين ظل الوجود البشري ثانويا.
رُتب المعرض بقاعات، كل قاعة تخصصت بعرض عدة فنانين وحسب تطور إسلوب الإنطباعيين وتلامذتهم في أرجاء اوربا. في إسبانيا وألمانيا واسكندنافيا كما في أمريكا التي تغذت من التفسيرات المختلفة لرواد الحداثة الفنية في بداية القرن العشرين، لكن كلود مونيه ظل حاضراً في كل قاعة مع تطور إسلوبه كفنان وكحدائقي. 

(أنا مدين للأزهار بكوني  رساماً) 
إحدى قاعات العرض خُصصتْ لرسائل مونيه التي كتبها عن الحدائق وتبادلها مع اصدقائه مثل رينوار، وبعضها مرسوم الحواش بطريقة جميلة بما يعبر عن محتوى الرسالة أو موسمها، هذه الرسائل مرتبة بين مزهريات زجاجية شفافة لحفظ بذور الزهور كأن العرض يدخل الزائر الى جو البيوت الزجاجية للنباتات والإحساس الطبيعي برطبوبتها ورائحة التربة، ويؤكد إن المعرض يستهدف محبي الحدائق والزهور والمهتمين بالفن على حد سواء. 
وعلى خطى مونيه سار الكثير من فناني القرن التاسع عشر وغادروا المدن حالما إغتنوا وبدأو بانشاء منازل وحدائق لهم خارج المدن حيث يقضون البقية من حياتهم في الرسم والعزلة ويولون إهتمامهم البصري الى الضوء الطبيعي ومساقطه على الطبيعة والاشجار والزهور خلال تعاقب ساعات النهار والليل وتعاقب الفصول.
 لوحة الفنان الفرنسي الإنطباعي غوستاف كايبوت 1848/1894 (زهور الداليا في حديقة جنيفير) تجعل المشاهد يشعر كأنه يمشي في ممر حجري ضيق وأمامه بيت له نوافذ ضيقة وسقف قرميدي يسبح في ضوء الشمس والظل وفي واجهة اللوحة زهور قرمزية كبيرة تلمع في الظلال المتموجة. لكن لوحة غوستاف كايبوت (جدار في حديقة خضروات /1877) هي لوحة عادية سواءً لمحبي الفن او حتى لهواة الحدائق وهي فعلا تصف جدار في حديقة ولا شيء أكثر. 

 في أرجاء العالم وعلى مدى التاريخ، دائما يذهب الفنانون الى الطبيعة والحدائق. الفنان الإنطباعي الأمريكي الذي عاش في لندن (جون سنغر سارجنت 1856/1925) حيث يصور الحدائق الإنكليزية بظلالها المعتمة، أو الفنان الاسباني (جواكيم سورويا 1863/1923) الذي يصور الحدائق الأندلسية كحدائق قصر الحمراء وحدائق قصر المحد في اشبيلية، لكن يبدو إن هذين الفنانان بقيا على هامش جماعة الإنطباعيين الرواد مثل مونيه ورينوار وبيسارو.
 هذا المعرض شاهداً على التاريخ الاجتماعي لصرعة إنشاء الحدائق والإهتمام بها لدى الفنانين، أكثر من كونه معرضاً يجمع لوحات لا مثيل لها في عالم الفن لإدهاش الزائر. الفنان  الأمريكي الانطباعي المغمور الذي عرفني عليه هذا المعرض (دينيس ميلر بونكر 1861/1890 ) يجعل عين المشاهد تتبع نهر من الزهور المختلفة الالوان، وهذا النهر الزهري يجري عبر ممر يخترق حديقة، لوحة بونكر هذه مشرقة ومبهجة أكثر من لوحة مونيه المعلقة الى جانبها والتي يرسم بها ذات الممر والحديقة. 

الكثير من فناني القرن التاسع عشر والقرن العشرين الرواد، إستداروا بنظرهم نحو الحدائق  كمكان لإستكشاف تغيرات وتقلبات اللون والضوء وكمكان للإلهام الذاتي أو موضوع لمواجهة خيالهم وخوفهم في ذات الوقت. لوحة فان كوغ علىى سبيل المثال الموجعة والتي رغم ألوانها المبهجة، فانها تشعرك أن الكرب يسيل منها مثل الاصفر الذي يطغى على تفاصيلها، هذه الوحة رسمها فان غوغ لحديقة المصح النفسي في سانت ريمي، لا أدري لماذا لم تاخذ هذه اللوحة شهرة كما غيرها من لوحات فان غوغ ، فعلا إنها واحدة من اقوى إبداعاته وأكثرها حميمية وإلتباس، بينما حول ماتيس حدائق المغرب التي زارها عام 1912 الى حقول مشبعة باللون معبداً الطريق الى أكثر الصرعات الفنية الحداثوية مثل السوريالية والتجريدية، إدارة المعرض لم تركز على لوحة فان غوغ أو ماتيس في المطبوع التعريفي مما يترك الزائر في حيرة من أمره.

المعرض يكافأ زوراره ويدهشهم بعرض لوحة الفنان الروسي وسيلي كاندنسكي (حديقة مورنو 1910 )التي رسمها في قرية بفارية عندما كان على عتبة الدخول في التجريد، اللوحة بتفاصيل وألوان مذهلة، تشيع إحساس لدى المتفرج ان ثمة حديقة ملونة بشمس جبال الالب تميل نحوه. لوحتان صغيرتان للفنان التعبيري السويسري (بول كلي 1879/1940) حول فيهما الحديقة الى مكان للأحلام المزعجة والالوان النافرة مع أشكال دائرية كأنها عين مسهدة، بينما لوحة الفنان النرويجي إداورد مونخ والفنان النمساوي غوستاف كليمنت أخذتا منحنى بعيد جدا عن البهجة في تجريب ثيمة الحديقة وألوانها.  
وفي قاعة عرض للفنان الفرنسي ما بعد الانطباعي بيير بونارد والفنان إدوارد فويلارد يشعر الزائر كأنه يدخل الى حديقة حقيقية ويشارك الأشخاص المرسمومين داخل اللوحات الشعور بالمرح، مثلأ في لوحة بونارد الباهتة الالوان (صيف في النورماندي) هناك امرأتان تضطجعان في واجهة اللوحة كأنما يشعر الزائر إن بإمكانه مد يده الى هذا المشهد  المنقوع بشمش قائضة.  

لكن يبدو إن إدوارد مونيه هو بطل هذا المعرض، بدأنا به وإنتهينا به، قبل الدخول الى القاعة الأخيرة هناك مقولة له : " أذا جاء هؤلاء البرابرة كي يقتلوني، سيقتلوني وانا أمام لوحاتي، وأنا أرسم" كتبها أثناء الحرب الأولى حيث رفض مغادرة منزله وحديقته في جفرني رغم إنه كان يسمع أصوات القذائف والمدافع في المعارك الدائرة على مقربة من بيته، وببطء تحولت نظرته الفنية وإستكشافه لحديقته ونباتاتها وألوانها اللامنتهي الى نظرة تجريدية خالصة، هناك تناقض جلّي بين لوحاته وهو يرسم الجسر الياباني في إولى قاعات العرض وبين القاعة الاخيرة حيث جدارياته الضخمة (زنابق البركة) تبدو هذه الجداريات تراكيب لونية من هياج غاضب مع دوامات من التكتلات البراقة بالاحمر والاخضر، أربع جداريات ضخمة من ( زنابق البركة) حيث الأرض المحيطة بالبركة  تتلاشى نوعا ما ويذوب الوقت والفضاء في ضوء وألوان متلألئة ، ثلاث من هذه الجداريات يحمل ذات العنوان وهي تعرض للمرة الاولى في المملكة المتحدة حيث مقرها الدائم في متحف الاورنجري في باريس وهي أجمل ابداعات مونيه بلا شك. 





 ان العلاقة بين رسم الحدائق تاريخياً وتكنولوجيا ليس فقط لنقل متعة مشاهدة الحديقة الى المتلقي بل هي لذة الأندماج والموائمة بين الحسية والبدنية، هوتحويل الضوء والطقس المحلي الى شي عالمي يجعل الصورة تفرض حضورها على المتلقي اينما كان وفي أي وقت كان.
اللوحات المعروضة تمنحك الشعور انك تدخل حديقتك الخاصة وتعطيك دفقة مركزة من السكون والتيه في نظرة ملونة مختلفة لهذا العالم. 

Wednesday, 20 April 2016

معرض مؤسسة برجيل لأبرز الفنانين العرب في لندن

معرض مؤسسة برجيل لأبرز الفنانين العرب في لندن

كالري الوايت جابل اللندني العريق الذي أُفتتح سنة 1901 والذي أُعيد بناؤه وتوسعته عام 2009 ، الذي عُرضت فيه جورنيكا بيكاسو عام 1938 والذي شهد أول معرض شخصي للفنان البريطاني ديفيد هوكني 1970 ، شهد هذا الكالري  معرضاً لأهم الفنانين العرب الطلعيين من أمثال التشكيلي المصري محمود سعيد والفنان العراقي كاظم حيدر.
 المعرض سلسلة تتضمن أربعة معارض من المقتنيات الفنية المتنوعة والواسعة لمؤسسة برجيل التي تعنى بالفنون في المنطقة العربية. سيعرض في سلسلة المعارض هذه مئة عمل فني لأكثر من 60 فناناً من مختلف البلدان العربية ، سلسلة المعارض الفنية تروي قصة نشأة وتطور الفن العربي الحديث الى المعاصر عبر اللوحات الفنية ومن مختلف الفترات الزمنية وعبر الصور الفوتغرافية وأفلام الفيديو.
تأسست مؤسسة برجيل سنة 2010 لإدارة وحفظ وعرض المقتنيات الفنية الشخصية  لسطان سعود القاسمي والتي تضم أعمال ولوحات فنية متنوعة من بداية القرن العشرين الى الوقت الحاضر، وتعد مؤسسة برجيل للفنون أكبر مؤسسة فنية شاملة للفنون في المنطقة العربية.
الجزء الأول من سلسلة المعارض بعنوان (مناقشة الحاداثة)، بدأ عرضه إعتباراً من الإسبوع الثاني لشهر أيلول ولغاية شهر كانون الأول من العام الحالي، ويستكشف هذا الجزء بداية وتطور جماليات الفن حينما كان العالم العربي يرزح تحت تأثير تغييرات جوهرية سياسية وإجتماعية ترافقت مع نهاية الإحتلال الأوربي وبداية الإستقلال وتكون الدول العربية، هذه التغييرات التي أدت الى بزوغ النهضة العربية الحديثة، عبر لوحات ورسوم يعود تاريخها الى بداية القرن العشرين حيث تُعرض لوحة (فتاة نوبية) للفنان المصري الأرمني إيرفند ديمتريجيان( 1870-1938 ) والتي يعود تأريخها الى عام 1900، وأنتهاءاً بلوحة الفنان المصري حامد عويس( 1919- 2011 ) الحارس 1967 والتي كانت رد فعل الفنان أزاء صدمة حرب حزيران، اللوحة الكبيرة تمثل مقاتلاً أسمر الملامح بذراعين مفتولتين يحمل سلاحاً ويستحوذ على مساحة اللوحة بينما في أسفل اللوحة مشاهد من الحياة اليومية للناس بما في ذلك مشهد زواج وطفل يركب دراجة وفلاح وأم وطفلها وخلفية اللوحة تمثل منظراً يمكن أن يكون لأي مدينة عربية بنهرها وجسرها ومآذنها. 
 وسيعرض الجزء الثاني من هذه السلسلة الفنية إعتباراً من ديسمبرهذا العام وحتى أبريل من العام المقبل وسيركز على ثيمة الرموز والمجاز في الأعمال الفنية العربية للفترة من (1968-1987 )، بينما الجزء الثالث سيكون موعد عرضه من أبريل للسنة القادمة وحتى شهر أوغست وسيركز على الفوتغراف وفنون الفديو لفترة التسعينات من القرن المنصرم، بينما سيركز الجزء الأخير من سلسلة المعارض على أساليب الفنانين في رسم وإستلهام المدن العربية التي يعيشون بها أو التي يعملون بها.  
هناك الكثير من اللوحات الجميلة والنادرة في هذا المعرض، أهمها لوحتين نادرتين تعرضان للمرة الأولى للروائي اللبناني الشهير جبران خليل جبران، تُظهران تأثره الجليّ بتخطيطات ليوناردو دافنشي، إحدى اللوحتين تمثل إمراة عارية تقف بجسد منثن، تحمل طفلاً على كتفيها تحوطهما معاً يد كبيرة  بحنان بالغ.  

لوحة الفنان السوداني (أحمد شيبرين 1931) المؤرخة عام 1960 التي إستخدم فيها عدة مواد مختلفة على ورق ، ويستلهم بها جماليات الخط العربي مع تكوينات بالأسود والأبيض تنهل من سحر الطقوس الأفريقية ومع ذلك ظلت اللوحة وفية لتجريدها، كم ذكرتني لوحته بلوحات الفنان الإسباني أنتوني تاباز (1923-2012). 


ثلاث لوحات للتشكيلي المصري الشهير محمود سعيد( 1897- 1964) وهو من مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة للفنون التشكيلية، تظهر تأثره بالإنطباعية، لوحته المعنونة (القطة البيضاء/ 1948 ) تظهر فيها ثنائيات نسوية يقفن بطريقة مغرية، متلفعات بالعباءة  والخمار المصري ومنشغلات بالحديث وفي خلفية اللوحة صيادو السمك، الكل مشغول بأمره عدا قطة بيضاء وحيدة تحتل مركز اللوحة وتنظر مباشرة في عين المشاهد كأنها طفل ضائع. 
طفحت في عيني دمعة وأنا أتأمل لوحة (عشرة خيول متعبة /1965 ) هذه اللوحة التي قرأت عنها وعن صاحبها الكثير، الفنان العراقي الرائد كاظم حيدر( 1932-1985 ) وهي جزء من لوحات ملحمة الشهادة التي تستلهم واقعة الطف بإسلوب تعبيري تجريدي يقترب من التكعيبية والإختزال، عشرة خيول تنوح وتناجي الأفق المعتم كما أرضية اللوحة المعتمة بينما قمرأً أحمراً كأنه شاهد على نواح الخيول. يا له من مزج فريد للأساليب في تناول الموروث الشعبي. 

 لوحتان للفنان العراقي الرائد ضياء العزاوي، مزيج من الألوان الداكنة والسوداء أعادتني الى الألوان الباروكية، ضربات الفرشاة تقترب من خطوط المشرط وأشكال غير واضحة المعالم لها أقدام وأيدي ثقيلة غليظة ، ضياء العزاوي يعتبر من أبرز الفنانين العراقيين 

لوحة صغيرة للفنان العراقي الرائد جواد سليم غير معنونة مؤرخة 1951 تظهر بنتان بعيون واسعة تذكرنا بعيون النساء في الحضارة العراقية القديمة. لوحتان للفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد تظهر أحدهما ولعه بالطلاسم وعلم الحروف بينما أختلفت الثانية بالاسلوب تماماً، حيث الالوان البراقة لديك في حالة الصياح. 


خمس لوحات من الحبر على الورق للفنانة المصرية إنجي إفلاطون( 1928-1985 ) تُظهر تأثرها بالسوريالية. لوحتان للفنان المغربي الرائد أحمد شرقاوي. لوحتان كبيرتان للفنان السوري مروان يقترب بها من السوريالية في تناول أشخاص معروفين. لوحة إمرأة وجدار للفنان الجزائري الرائد أحمد أسيخام( 1928-1985 ) تصور إمراة بالملابس الأمازيغية التقليدية وملامح صارمة وخلفها جدار مكتوب عليه كلمات تمثل إحتجاجات أو شعارات. 

 شيخ سلطان القاسمي ومؤسسة برجيل للفنون وكالري الوايت جابل يمثلون تلاقيا نادرا، ليس لأن هذا العرض الفني الجميل يتيح للزوار والمهتمين بالفن في العالم العربي فرصة نادرة لمشاهدة لوحات أبرز الفنانين العرب الطليعين في مختلف البلدان العربية  فقط، لكنه يسلط الضوء ايضاً على عرض وطلب وسوق الفن العربي الحديث وكيف يمكن أن تُسوقْ وتزيد قيمة هذه اللوحات الفنية بتلاقح جهود جامعي اللوحات والمؤسسات التي تعنى بالعروض الفنية وجهود قاعات العرض العالمية. شكراً لكل الجهود الخيرة التي إقتنت ْوحفظتْ وعرضتْ هذه الأعمال الفنية التي تؤرخ بطريقة فنية لنهضتنا العربية المعاصرة.

Saturday, 16 April 2016

عن مدينة كامبردج

كامبردج وجسورها العريقة على نهر كَيم  

جسرا الرياضيات والعبرات 
حينما وقفتُ على جسر (فن كوزوي/ Fen Causeway) كي ألتقط صوراً تذكارية لجسر الرياضيات الخشبي الذي يربط  شطري كلية الملكات ( Queens’ College) أخبرتني عجوز إنكليزية إن هذا الجسر صممه وبناه إسحق نيوتن بدون إستخدام المسامير اللولبية في شد أجزائه، لكن(وليام أثيريج/William Etheridge) هو من صمم جسر الرياضيات وبناه عام 1747 وأُعيدَ بناء الجسر مرتين بعد ذلك لكنه إحتفظ بتصميمه الأصلي، ورغم إنه يبدو كقوس خشبي لكنه يتكون بمجمله من أضلاع خشبية مستقيمة رُبطت بطريقة هندسية محكمة الزوايا والقياسات ومن هنا جاءت تسميته بجسر الرياضيات. أخبرنا بذلك فيما بعد قائد قارب البنط (Punt) الذي ساقني وسواح آخرين في جولة نهرية في نهر كيم الذي يخترق  مدينة  كامبردج من جنوبها 
  الغربي متجهاً الى شمالها ماراً بكلياتها التاريخية ومعالمها الشهيرة. 

الكلية التي خرجت الفائز بجائزة نوبل مرتين 
 (كلية الملك/ King's College) التي بدأ الملك هنري السادس بناؤها عام 1441 وانتهى بناؤها عام 1544 في عهد الملك الشهير هنري الثامن وتعتبر من اهم معالم العمارة القوطية في بريطانيا ويحتوي سقفها على أكبر مروحة هوائية في العالم، خرجت هذه الكلية العديد من الأسماء المشهورة منها (روبرت ويلبول/Robert Walpole) أول رئيس وزراء بريطاني منتخب، الشاعر (روبرت بروك/Rupert Brooke )، الروائي سلمان رشدي، فريدرك سانجر الحائز على جائزة نوبل مرتين في الكيمياء. الشاعر الصيني (تشو زيمو/ Xu Zhimo) المجدد الكبير في الأدب الصيني الحديث والمتوفي في حادث طائرة عام 1931 عن عمر لايتجاوز الخامسة والثلاثين، كرمته الكلية بنقش إسمه وأبيات من شعره على شاهدة مرمرية بيضاء قريبة من ممشى نهر كَيم، يقول في مطلع قصيدته (وداعاً كامبردج مرة أخرى)  :
بمنتهى الهدوء أبدأُ عطلتي
بمثل الهدوء الذي جئتُ به
بهدوءٍ ألوحُ وداعاً
للغيوم الوردية في سماء الغرب.
لكلية الملك أيضا جسرها المسمى على إسمها والذي شُيّد في القرن الخامس عشر وأُعيد بناؤه عدة مرات ونسخته الحالية تعود الى عام 1819 يربط شطريها المتقابلين على نهر كيم.
أما أقدم الجسور في كامبردج والذي لم يُجدد بناؤه  فهو جسر كلية كلير( Clare College نسبة الى الليدي كلير حفيدة الملك ادوارد الاول) الذي يربط شطري الكلية التي هي ثاني اقدم كلية في كامبرج تأسست عام 1326. شيد الجسر توماس كرامبولد(Thomas Grumbold ) عام 1639، هذا الجسر مزدان بكرات حجرية على سياجه لكن هناك كرة واحدة مفقود ربعها في جزئه الجنوبي ويقال السبب في ذلك ان ضرائباً عالية 
كانت تُفرض على الجسور المكتملة البناء في ذلك الوقت لذلك بقي الجسر غير مكتمل. 

مخطوطات شكسبير وعصا إسحق نيوتن
(مكتبة رين/Wren Library) ستكون في مرمى البصر ايضا أثناء الجولة النهرية التي تستغرق 45 دقيقة، الدخول مجانا للسياح وتحتفظ هذه المكتبة بعصا المشي التي كان يستخدمها إسحق نيوتن وخصلة من شعره والنسخة الاولى من كتابه الشهير(الفلسفة الطبيعية). وكذلك بعض مخطوطات شكسبير الأصلية وبعض الرسوم النادرة من القرن السادس عشر للسلاطين العثمانين. مكتبة رين هي جزء من كلية ترنتي(Trinity College) التي درس وتخرج منها بعض أفراد العائلة المالكة مثل الأمير  تشارلس وملكة الدنمارك ماركريت الثانية وكذلك تخرج منها إسحق نيوتن والفيلسوف الانكليزي فرنسيس بيكون واللورد بايرون والشاعر الباكستاني محمد اقبال والكثير من حملة جائزة نوبل وفي كافة الاختصاصات.
 جسر العبرات أجمل جسور مدينة كامبردج وأشهر معالمها على الاطلاق وهو يماثل معماريا جسر العبرات في مدينة البندقية، هذا الجسر المسقف والمزدان بنوافذ كبيرة تطل على النهر بناه المعماري هنري هاتشينسون(Henry Hutchinson) عام 1831وهو يربط فناء كلية سانتجونز الثالث بفناء الكلية الجديد وقد إستمدَ الجسر إسمه من عبرات الطلاب وتنهداتهم المتواصلة على الجسر الذي عليهم أن  يعبروه للحصول على نتائجهم في الجهة المقابلة حيث مكتب عميد الكلية.
يلى جسر العبرات جسر رين(Wren Bridge) الذي يعود ايضا لكلية سانتجونز الشهيرة التي أسستها مارغريت بوفور والدة هنري السابع ملك إنجلترا عام 1511 . تعد الكلية ثاني أهم كليات جامعة كامبريدج  وكان طلابها في القرن التاسع عشر ناشطين ضد تجارة العبيد في بريطانيا وتوج نضالهم بقانون منع التجارة بالرق عام 1807. 

أشباح  أكاديمية
ووفقا لسائق قارب البنط.  فان كلية سانتجونز مسكونة بالاشباح ومن أشهرها  قصة شبح الطالب الفقير (جيمس وود) الذي لم يكن بإستطاعته شراء زيت لإنارة غرفته ومراجعة دروسه مما إضطره الى الجلوس ساعات طويلة في السلم المضاء جيدا لإداء واجباته ويبدو إن شبحه لايزال يسكن السلم ذاته والفناء الجامعي الذي يليه.
جائزة الملعقة الخشبية
جزء من تقاليد كلية سانت جونس العريقة هو منحها جائزة عبارة عن ملعقة خشبية ضخمة يتجاوز طولها المتر للطالب الذي يأتي ترتيبه الأخير في مادة الرياضيات الصرفة ولاتزال آخر ثلاث ملاعق خشبية معلقة خارج غرفة اتحاد الطلاب. إنتهى هذا التقليد منذ عام 1909 بعد أن إتبعت الكلية إسلوب الترتيب الأبجدي في إعلان النتائج. 

نزهة نهرية في قارب
قارب البنط التقليدي ((Punt الذي تشتهر به مدينة كامبردج يقوده احد طلاب المدينة غالبا وهو يمتلك خزين من المعلومات عن المدينة وأبنيتها الأثرية، الجولة النهرية تمكن السائح من مشاهدة حدائق وخلفيات سبع من كليات الجامعة التي تعد ثالث اقدم جامعة في العالم وتضم إحدى وثلاثون كلية، أقدم كلياتها هي بيتر هاوس تأسست عام 1209. مدينة كامبردج  تبعد حوالي ثمانين كليومتراً شمال لندن حيث يسير قطار سريع من محطة كنكز كروس كل ثلاثين  دقيقة برحلة لا تتعدى الخمسون دقيقة. 

 متحف فيتز وليام (Fitzwilliam Museum) هو متحف المدينة الرئيسي، يقع في وسط كامبردج، بُني عام 1816 وهو مفتوح  للسواح مجانا ويحتوي على اللوحات الفنية والآثار والعملات النقدية القديمة وكذلك المخطوطات الأصلية  ويسقبل 300,000 زائر سنويا. لوحات اصلية لكل من تيتيان ومونيه وديغا ورينوار وسيزان وبيكاسو وكذلك يحتوي على آثار الحضارات القديمة لمصر وبلاد الرافدين والإغريق والرومان، منحوتة ضخمة للملك آشور ناصربال الثاني وهو يحمل وعاءا  للخمر تزين السلم العريض المؤدي الى قاعة عرض آثار هذه الحضارات وكذلك يحتوي  المتحف على صندوق نادر من الغرانيت لمومياء الملك رمسيس الثالث والكثير الكثير غيرها من الكنوز الفنية والاثرية.


 في كامبردج العديد من المطاعم والحانات المشهورة ومطعم النسر ((The Eagle من أشهرها على الاطلاق وبمقدور رواد هذا المطعم قراءة أسماء طياري الحلفاء الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية منقوشة على جدران وسقف المطعم حيث دونها تخليدا لذكراهم نظراؤهم في القوة الجوية البريطانية الذين إرتادوا المطعم اثناء الحرب. 
مدينة كامبردج واحة آمنة لمستخدمي الدراجات الهوائية بتشجيع من بلدية المدينة للحفاظ على الابنية التاريخية من خطر التلوث والتقادم وتأجير دراجة هوائية هو افضل طريقة لأستكشاف هذه المدينة ومعالمها. 

ذكرى عمرها أربعة قرون
اثناء تجوالي في شوارع المدينة إكتشفتُ هذه العلامة التذكارية (1661 EW ) التي تعود الى القرن السابع عشر محفورة في احد الجدران الخارجية لكلية الملك، لاتزال محتفظة برونقها كأن عاشقين قد حفرا حرفين من إسميهما قبل ساعة. وكثيرا ما تشهد حدائق وقاعات كليات الجامعة الأثرية حفلات الزواج لطلابها او للمتخرجين منها او لعامة الناس ممن يرغب أن يكون حفل زواجه في مكان مميز وقد شهدتُ بنفسي إحدى حفلات الزواج  في حدائق وقاعة في كلية الملكة.