Tuesday, 5 April 2016

عن معرض روسيا والفن في الناشنول بورتريت غاليري في لندن


  تولستوي ودوستوفسكي وأنا إخماتوفا 


بالتزامن مع إنتهاء عرض مسلسل الحرب والسلم المأخوذ من رواية تولستوي الشهيرة  بنسخته الانكليزية الأخيرة من قناة البي بي سي، إفتتح الناشنوال بورتريت كالري في لندن موسم معارضه الربيعية بمعرض تحت عنوان ( روسيا والفن)، تضمن المعرض 26 لوحة بورتريت لأهم الرموز التي شكلت الهوية الثقافية لروسيا من روائيين ومسرحيين ومؤلفيين موسيقيين وشعراء في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
أُفتتح الناشنوال بورتريت كالري في لندن عام 1856 وهي ذات السنة التي قرر فيها رجل الأعمال الروسي المهتم بالفن بافيل تريتياكوف الذي كان بعمر الثانية والعشرين حينئذ البدء بجمع المقتنيات والأعمال الفنية، هذا المشروع الذي إستمر أربعة عقود من حياته التالية والذي أنفق عليه مبالغ طائلة وكلف به أفضل الفنانين الروس لكي يرسموا الكتاب والمؤلفين الموسيقيين والمفكرين وكل الشخصيات التنويرية التي ساهمت في تكوين الهوية الروسية. وقبيل وفاته عام 1892 أهدى كل مقتنياته الفنية التي تقارب ألفين عملاً فنياً الى بلدية موسكو وهذه التحف الفنية تمثل الان جوهر المتحف الوطني الروسي في موسكو وهي أكبر مجموعة فنية روسية في العالم واللوحات في هذا المعرض مستعارة  من متحف تريتياكوف في موسكو.
 كثيرا ما نتخيل إن الفن الروسي الحديث بدأ مع بداية الثورة البلشفية أو قبلها بقليل لكن هذا العرض الجميل يفند سطحية هذا الرأي، فالوجوه في بورتريهات المعرض مشهورة لكنها في ذات الوقت تعرفنا على الفنانين المنسيين الذين أبدعو هذه البورتريهات.
عى سبيل المثال الرسام والخطاط ومصمم الديكور ميخائيل فروبل (1856_1919 ) وهو أحد أبرز ممثلي تيار الرمزية في الفن الروسي هو مثال على المبدع القلق الذي ينظر للعالم بنظرة متشظية كسيرة. تعرض له لوحتان، الاولى لزوجته مغنية الأوبرا الروسية الشهيرة ( ناديجدا زابيل فروبل) التي يصورها جالسة بإسترخاء بثوب أبيض تزينه شرائط صفراء براقة،  تمط شفيتها قليلا بنصف إبتسامة، لكن ميخائيل فروبيل سيصاب بعد إنتهائه من هذه اللوحة بفترة قليلة  بإنتكاس نفسي ويبقى داخل جدران المصحة ما بقي من عمره، أعتقد حتى نصف الابتسامة قد إختفت من وجه زوجته بعد ذلك.   

 لوحته الثانية  لرجل الأعمال وصديقه مؤسس الاوبرا ( سافا مامونتوف) يصوره فيها كأنه قوة تطغى على كل ما يحيطها، هذه اللوحة رُسمتْ  بالأشكال المكعبة المكتتزة  قبل إجتراح التكعبية في باريس بحوالي عقد من الزمن.
 صالة المعرض الاولى ضمت لوحات للروائيين الروس، لوحة دوستوفسكي وهي اللوحة الوحيدة التي رُسمتْ له أثناء حياته والتي أبدعها الفنان الواقعي الروسي فاسيلي بيروف عام 1872 يظهر دستوفسكي يحدق الى الاسفل، كأنما ينظر الى العتمة  بزواية غريبة، يبدو جلده مثل غشاء من الأوردة والشرايين المتوترة الممتدة التي تتخلل العظام الناتئة لجمجمته، تتشابك يداه بعصبية وثيابه متهدلة ، دوستوفسكي في هذه اللوحة كأنه أحد أبطاله الروائيين أو مزيج منهم ، رجل يحمل عبء ثقيل مثل مجرم يشعر بالذنب أو حكيم يائس ينوء بحكمته.  


 لوحة تولستوي(1828-1910 ) التي رسمها الفنان نيكولاي جي عام 1884 وكان تولستوي وقتها قد حاز على شهرة عالمية من خلال رواياته الحرب والسلام وأنا كارنينا، وإنغمس كلياً بمبدأ تحقيق العدالة الإجتماعية، هذه اللوحة تصوره منكب على مكتبه، إلا إن أدوات الكتابة المذهبة  تشي بطبقته الإجتماعية وتتناقض تماما مع قميصه الأسود البسيط.  لوحات اخرى لتيشخوف وتورغنيف وبورتريت للعالم اللغوي والفلكلوري فلاديمير دال رُسم عام 1872 قبل أشهر من وفاته للفنان فاسيلي بيروف، هذه اللوحة ليست تصوير لعالم مشهور في ذلك الحين ويتقن ست لغات بقدر ما هي دراسة لملامح شيخ على وشك الرحيل، وجه ذابل ولحية فضية طويلة وأكتاف متهدلة وغير مكترثة ينظر فلاديمير دال الى الموت بعينيه، لوحة يمتزج بها الضعف الحاد مع قوة الحكمة والمعرفة الباطنية.



يلفت إنتباه الزوار في الصالة الثانية من المعرض بورتريت للموسيقار الروسي الشهير تشايكوفسكي (1840-1893 ) واللوحة في آخر سنة من حياة الموسيقار، للرسام وأستاذ الفن الاوكراني الأصل نيكولي كوزنتسوف، ورغم ان تشايكوفسكي كان في أوج شهرته الا إن اللوحة تؤرخ لتعاسته وقلقه النفسي بجبين معقود الحاجبين ويد متشجنة تحط على النوتات الموسيقية ونظرة حذرة كأنه يخشى النظرات والاضواء ويقول لكل من يقترب من اللوحة لا تتفحصني. 

الصالة الثانية ضمت أيضا لوحة اخرى للموسيقار نيكولاي ريمسكي كورساكوف وهو أحد الموسيقيين الخمسة الكبار الذي يمثلون جوهر موسيقى روسيا الوطنية.
بورتريت آخر للشاعرة انا إخماتوفا يعود تاريخه الى 1914 يصورها جالسة بين شجرتين وفي يدها كتاب مكللة بهالة مشعة للفنانة الروسية اولغا كاردوفسكيس عام 1914، اخماتوفا التي كانت شاهدة شجاعة بشعرها على روسيا القرن العشرين، والتي نجت من حصار لينينغراد وعاشت كي تشهد إضطهاد ستالين لكل الناس الذين أحبتهم في حياتها بما في ذلك إعدام زوجها الشاعر نيكولاي جوموليوف عام 1921بحجة مناهضته للثورة البلشفية ( له بورتريت أيضا)  وإعتقال ابنها، في هذه اللوحة تشع الكرامة والسمو من جلستها الجانبية.          
روسيا والفن هو فرصة ثمينة لعشاق الفن والأدب الروسي كي يشاهدو أبرز اللوحات التي تؤرخ لرواد الحداثة الثقافية في روسيا والتي استعارتها ادراة الناشنونال بورتريت كالري في لندن من تريتياكوف كالري في موسكو، المعرض يستعرض ويركز على الفترة الزمنية بين 1867 الى 1914 تحديدا والتي إضمحلت فيها المسحة الشرقية للإنطباعية الروسية، وهيمنت بالمقابل هوية وطنية بالتزامن مع موجة الواقعية الروسية. كل فناني روسيا في عهد تولستوي تقاسمو الحساسية الفنية ذاتها  والارادة في الحفاظ على الهوية القومية. ومن الواضح جدا إن سيطرة الثورة البلشفية 1917 على الحياة الثقافية كان النهاية السريعة لعصر الثقافة الروسية الذهبي.
مما يلفت الإنتباه في جمع الروائيين والفنانين ورواد الثقافة الروسية هذا، إنهم كلهم يصرون أسنانهم وأغلبهم يبدو معذبين ومضطربين وفي ثلاث صالات هناك فقط إبتسامتين احداهما لمغنية الاوبرا المشهورة (ناديجدا فروبل) والاخرى لعازفة البيانو تلميذة فرانز ليست(صوفي منتير)، ولولا الشرح التعريفي بجانب كل لوحة لتخيلت نفسي انني أمام معرض لمرضى في مصحة نفسية.
يستمر المعرض في الناشنول بورتريت كالري حتى شهر حزيران المقبل بالتزامن مع عدة حفلات موسيقية ومحاضرات للثقافة الروسية. 

No comments:

Post a Comment