100
عام على رحيله
رغم شتاء لندن المعتم،
لكن الناشونال
غاليري في قلب المدينة يشهد إحتفاءً جميلا بالفنان الفرنسي إديغار ديغا(1837/1917)
الذي يُعدُّ أحد مؤسسي المدرسة الإنطباعية، بمناسبة مرور قرن على وفاته. إستعار الغاليري
الشهير ثلاثة عشر عملاً فنيا، هي جوهر لوحات ديغا الباستيلية، من غاليري بيريل في مدينة
غلاسكو في إسكتلندا الذي يخضع حاليا لعمليات صيانة وتحديث أضطره لغلق ابوابه. وهي
المرة الاولى التي تغادر فيها هذه اللوحات مكانها في متحف بيريل منذ عام 1944، حين
أهدى السير (وليام بيريل/1861-1958) مصنع
وتاجر السفن الإسكتلندي الشهير مقتنياته الفنية التي تقارب 9000 عملا فنيا بين
لوحات ومنحوتات واثاث وأوان زجاجية ملونة وسيراميك ومنسوجات تعود إلى عصر النهضة
وغيرها الكثير، إلى مدينة غلاسكو، وقامت بلدية المدينة بإنشاء متحف خاص لهذه
المقتنيات سُمي بمتحف وليام بيريل ويقع في متنزه عام في الجزء الجنوبي من المدينة.
نُقلتْ هذه الاعمال
النادرة التي شُغلتْ بألوان الباستيل بحرص شديد الى لندن بعد وضعها في حافظات خاصة
تقلل الإهتزاز الذي من شأنه التأثير على ثبات الألوان الباستيلية على الورق إلى أدنى
مستوياته. واستمر حرص إدارة الناشيونل غاليري على هذه الأعمال حتى بعد وصولها الى
لندن حيث عُلِقتْ مرة واحدة في مكانها في قاعات العرض وضُبِطتْ درجة الإنارة بحرص
شديد كي لا تؤثر على اللوحات سلبا، وكي تتيح للزائر درجة معقولة من الضوء لمشاهدة
اللوحات. واضافتْ إدارة الغاليري الى هذا المعرض لوحيتن إستعارتهما من استراليا
واميركا بفضل التقنية المتطورة في عملية النقل، وكذلك أضِيفتْ الى هذا المعرض ما
بحوزة الناشيونل غاليري من لوحات فنية لديغا.
تعرّفَ إدغار ديغا الذي
ولِد لاسرة مترفة في باريس، في شبابه على مجايله إدوارد مانيه أحد رواد
الإنطباعيين عام 1863 في متحف اللوفر بينما كان الإثنان ينسخان ذات اللوحة للرسام
الكلاسيكي الإسباني فيلاسكوز، وجمعتهما صداقة طويلة ملتبسة، وإنضم ديغا بعد ذلك إلى جماعة الإنطباعيين وشارك في
اغلب معارضهم، لكنه رفض مصطلح (الإنطباعية) وفضّلَ أنّ يصف نفسه برسام واقعي مثل
مواطنيه دومنيك أنغري وكوربيه. كان ديغا مجربا لا يستكين في مختلف حقول الابداع
الفني فهو قد رسم ونحت وجرب الطباعة والتصوير في أواخر حياته، وجرب تقنيات خاصة في
استخدام الالوان الزيتية عبر تخفيفها ومزجها مع سوائل اخرى. لكن الباستيل(وهو مزيج
من مسحوق اللون والطباشير والصمغ مضغوطا على شكل أصابع)، بدا وسيلة مثالية لفنان
يعمل بسرعة مثله. وقد إبتكر ديغا تقنيته المتفردة في إستخدام ألواح الباستيل
الكامدة وغير الشفافة والتي توحي بالغموض، وذلك بإذابتها لكي تتحول إلى معجون كثيف
ذي ملمس أملس على سطح الورق، وإضافة الطبقات اللونية واحدة تلو الاخرى، او إحداث
تغيرات لا نهائية في اللوحة، وكان يُثبتْ طبقات الباستيل بواسطة رذاذ مثبت صُنع
خصيصا له، يرشه بين الطبقات كي يضمن عدم تناثر الألوان. واحيانا كان يحزز باظافره
خطوطاً على هذه التراكمات اللونية من الباستيل، تظهر بوضوح مثل تجريف اللون على
الورق كما في لوحته (سُيَّاس الخيل في المطر/1883-1886) حيث تصوّر اللوحة بايجاز
خمسة من سُيّاس الخيل يصطفون قبيل بدء السباق في جو ماطر إستحضره ديغا عبر خطوط
مائلة بالباستيل الأزرق وعبر تجريف الألوان من سطح اللوحة، وتُعدّ هذه اللوحة من
أهم مقنيات متحف بيريل.
كان ديغا شغوفا بحضور
عروض الباليه، مثل غيره من الباريسين في ذلك الوقت، ففي عام 1885 فقط حضر 54 عرضاً
للباليه، فقد كان بيته قريباً من دار الأوبرا. لكنه لم يكتف بحضور العرض فقد كان
يختلس النظر طويلا للراقصات في ممرات وصالات التدريب في دار الأوبرا. أنّ الثيمة
الأساسية في أعمال ديغا هي راقصات الباليه اللواتي منحنه فرصة مثالية لرصد وإقتناص
وتصوير أجسادهن في كل حالاتها من الوقوف برشاقة إلى إنحناءات التعب والإنزواء.
ومنذ عام 1880 تحولت لوحات ديغا التي يصور بها راقصات البالية نحو التجريد وصارت
ألوانه أكثر بريقا وكثافة.
في لوحة (الراقصات الثلاث/
1900-1905) تتحول بها تنورات الرقص للفتيات الثلاث من البني الى البرتقالي المشع
والاخضر المقنن الحاد والذي يطغي على بقية الالوان، كان ديغا يغمس اصابع الباستيل
في الماء كي يضيف ضربات لونية ناعمة لكنها كثيفة وقوية على سطح اللوحة.
عرضت هذه اللوحات في ثلاث
قاعات للعرض مناسبة جدا من حيث المساحة لهذا المعرض الإستعادي المصغر، في الطابق
الاسفل من الغاليري. وهي فرصة نادرة للجمهور كي يطلع ولأول مرة على عدد كبير من
هذه اللوحات الباستيلية في مكان واحد. تتخلل هذه اللوحات مجموعة صغيرة من لوحات
ديغا بالألوان الزيتية، كأن إدارة الغاليري تعمدتْ ذلك لكي تتيح إمكانية المقارنة
بين إستخدام الباستيل والزيت، ولماذا لجأ ديغا الى الباستيل الذي مكّنه من الحصول
على توازن نادر بين اللون والفراغ في فضاء اللوحة. تحوّلَ الباستيل في بعض اللوحات
إلى ثيمة اللوحة الرئيسية والتي يتوارها خلفها شخوص ومشاهد اللوحة إلى حد الإقتراب
من التجريد، وفي احد اللوحات على القماش جَربَ ديغا تقنية إستخدام الباستيل لكن بألوان
الزيت.
يضعنا هذا المعرض
الصغير بمواجهة حداثة ديغا وتجريبه المتواصل من خلال إستخدامه للباستيل والألوان
الزيتية. لكن ثيمة لوحاته لا تقل حداثة وتفرد عن الوسيلة المستخدمة فيها، فقد
تراوحت بين عاملات الغسيل على ضفة النهر، إلى راقصات الباليه المتعبات، ثم تلك
النساء اللواتي يصورهن غالبا من ظهورهن وهنَّ غير داريات، بعيني الفنان التي تراقب
وضعيات أجسادهن المتوترة في لحظة حركية بحتة والتي تسلط الضوء على الإلتباس
والجانب المظلم الذي لم يفصح عنه ديغا ابداً، وهو علاقته بالمرأة.
وسوف لن يتسنى لنا معرفة
مَنّ هُنَّ هؤلاء النسوة في حياته او في لوحاته، هل هن نسوة باريسيات برجوازيات او
بنات ليل وبائعات متعة؟ ورغم هذا فأن لوحات ديغا التي تصوّر النساء المستحمات، هي
الأكثر صدقاً وغموضا وعفوية في نفس الوقت، وربما تبلبل ذهنية المشاهد نوعا ما، يضع
ديغا المشاهد للوحته مكانه، كأنه يختلس النظر من الخلف للمرأة التي تنحني كي تلامس
اصابع قدميها في لوحة(امراة في حوض الاستحمام/ 1896-1901) حيث يبرع الفنان في خلق
توازن بين ورك المرأة وحوض الإستحمام والإسفنجة التي تريد إلتقاطها. بينما تنحني
امرأة اخرى في لوحة (بعد الحمام/ 1896) وكأنها أُرغِمتْ على أخذ وضعية غير مريحة.
نساء ديغا المستحمات غالبا بلا وجوه ولا ملامح، تُقنص اجسادهن بغفلة عنهن، في
وضعيات محرجة وخالية من الإغواء او الوقار، وربما تسلط هذه اللوحات بالذات الضوء
على حياة ديغا الخاصة وعلاقته بالمرأة حيث مات الفنان عام 1917 دون أن يتزوج او
يُعرف عنه ان له علاقة بامرأة.
نشر المقال في صحيفة الشرق الأوسط
No comments:
Post a Comment