كيف استلهم الفنانون
الغربيون الحضارة الإسلامية
الاستشراق كما يعرفه المفكر الفلسطيني ادوارد
سعيد؛ هو التيار الذي تبناه بعض مفكري الغرب حين توجهوا بالبحث المعرفي لمنطقة
الشرق عن طريق الترحال والترجمة للوقوف على معالم الفكر والتاريخ والثقافة الشرقية.
والاستشراق فنيا هو تمثيل الشرق بلوحات الفنانين الغربيين وغالبا مايكون هذا
التمثيل مزيجا من الرومانسية الفنية والإحتفاء بالتفاصيل الشرقية والألوان المضيئة
القوية. ويصعب تحديد بداية لفن الاستشراق، لكن سيطرة السطان محمد الفاتح على
القسطنطينية وما تلى ذلك من توسع للامبراطورية العثمانية نحو أوربا الشرقية جعل
الكثير من التجار والفنانين الأوربيين والبعثات الدبلوماسية يرتحلون نحو الشرق.
ولعل بورتريت فنان عصر النهضة الإيطالي (جنتيلي بيليني 1429_1507) للسلطان محمد
الفاتح الذي يعود إلى العام 1480 ربما يؤرخ لبداية هذه الحركة فنيا، فقد أرسِلَ
بيليني من قبل حكومة مدينة البندقية إلى القسطنطينية عام 1479
بناءا على طلب
السلطان محمد الفاتح، أُعيد رسم هذا البورتريت وطباعته في انحاء أوربا.
السلطان محمد الفاتح لوحة فنان عصر النهضة جنتيلي بيليني عام1480
تأثر أسلوب الرسم الغربي
بثقافة الشرق وطبيعته وتفاصيله وملامحه وتنوعه وغرابته التي مزجت الخرافة
والأسطورة والطرافة والسحر والواقع. وصلت حركة الاستشراق الفنية ذروتها خلال القرن
التاسع عشر وقبل ذلك اسهمت ترجمة المستشرق الفرنسي (انطوان غالان 1646_ 1715) لقصص
ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، بعد أن جمع الحكايات الشفوية من مقاه بغداد ودمشق وظهرت
تباعا في اثني عشر مجلدا، في خلق صورة خيالية عن الشرق، وكانت لوحات المستشرقين
تلقى رواجا كبيرا لدى الجمهور في أوربا وأمريكا. ورغم ان الاستشراق إسقاط غربي على
الشرق بُنِيَّ على أسس التثاقف والبحث لكنه في عمقه هيّأ للاحتلال الأوربي والسماح
لمنتسبي الجيوش الاوربية والتجار والفنانين من الدخول إلى
القصور والمساجد ومشاهدة ناسها والتعرف على تفاصيل حياتهم اليومية.
لوحة للسلطان العثماني بايزيد الثاني لفنان من عصر النهضة من مدينة البندقية
وقبيل جائحة كرونا العالمية، شهد المتحف البريطاني في لندن
معرضا فنيا بعنوان (إستلهام الشرق/ كيف أثر العالم الاسلامي بالفن الغربي). استلهم
القائمون على المعرض أفكار ادوارد سعيد في ضرورة احترام المستشرقين للتفاصيل
الواقعية للحياة البشرية في الشرق، والتفهم النابع من النظر إلى الآخر نظرة ودّ
وتراحم، والمعرفة التي تُكتسب وتُنشر بأمانة أخلاقية وفكرية، فهذه الأهداف أفضل من
الإستعلاء والعداء الذي يختزل الخصوم ويحقّرهم. قدم
المعرض فن الاستشراق كفعل تفاعلي طويل الأمد بين الشرق والغرب لم يقتصر تأثيره على
الرسم فقط بل شمل فن السيراميك وكتب الرحلات والخرائط والزخارف والأزياء.
نجح
المعرض في جلّ أهدافه، بدءً من عرضه لوحة الطبعة الاولى لكتاب ادوارد سعيد
الاستشراق وهي لوحة (ساحر الافاعي) للفنان الفرنسي (جون ليون جيروم1824_1904) الذي
قام بأول رحلة له الى تركيا ومصرعام 1854 حيث التقى بالخديوي اسماعيل ودوّن
يومياته ومذكراته لتلك الرحلة. وقد دُعي جيروم مع عدد من المستشرقين الفرنسيين إلى
حفل افتتاح قناة السويس عام 1869 وكان قد وصل القاهرة قبل ذلك بسنة وزار جوامعها وبناياتها الأثرية وصوّرها.
لوحة (ساحر الافاعي) تصور ولداً يلتف حول جسده ثعبان ويستعرض مهاراته امام حشد
بسيط من المتفرجين يجلسون على الأرض ويتكئون على جدار منقوش بالزخارف والخطوط العربية.
في هذه اللوحة تمتزج الدراما الرومانسية لفناني الاستشراق وواقعية الحياة اليومية للمدن
الشرقية.
الصلاة في
لوحات المستشرقين
من بين ابرز المعروضات، لوحة
(المصلي/ 1877) وهي عمل روحاني مهيب للمستشرق الأمريكي فريديريك آرثر برديجمان
الذي زار مصر عام 1770 وبقي فيها عدة سنوات. في لوحته (المصلي) يصور برديجمان
شخصين أثناء الصلاة، كهلا يبدو مترفا من ثيابه يرفع رأسه نحو السماء استعدادا
للصلاة وشخص آخر مرقع الرداء في حالة الركوع، يستلهم الفنان في هذه اللوحة
المساواة الاجتماعية بين الناس في المساجد وفي الصلاة خصوصا، وهناك تفاصيل شرقية
كثيرة في اللوحة من السجاد إلى فوانيس المسجد وأعمدته وابوابه.
تبدو ثيمة الصلاة الذكورية في أعمال
الأستشراقيين مرادفة لثيمة الحريم الأنثوية، فهناك لوحة بورتريه اخرى لمصلٍ بدوي
يؤدي صلاته في الفضاء الطلق وخلفه تبدو التلال الحمراء في تناغم مع ثنيات عبائته
وهو يرفع يديه ايذانا ببدء الصلاة، اللوحة للفنان والمترجم الفرنسي(ألفونسو دينيه
1861_1929) الذي زار الجزائر لأول مرة عام 1883، ثم عاد ليستقر فيها بعد ان إعتنق
الإسلام وغير أسمه إلى نصرالدين دينات وأتقن العربية وكتب عدة كتب بالفرنسية منها
(الشرق كما يراه الغرب) وترجمه إلى العربية عمر فاخوري وأيضا له (السيرة النبوية)
وهو مجلد من عدة أجزاء كتبه بمساعدة صديقه الجزائري سليمان بن ابراهيم وزينه بالصور
الملونة لمعالم الجزائر الإسلامية وصدر باللغتين الفرنسية والإنكليزية وترجمه إلى
العربية عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم. توفي نصرالدين في باريس لكنه دفن في
مدينة بوسعادة في الجزائر بناءا على وصيته وهناك
متحف في المدينة مخصص له.
لم يكتف بعض المستشرقين بالتصوير والكتابة وإقتناء
التحف الشرقية، بل عاشوا جلّ حياتهم في العالم الإسلامي، وأعتنق بعضهم الاسلام، مثل
الفنان الفنلندي جان بابتيست فانمور الذي خدم في اسطنبول ضمن بعثة السفارة
الفرنسية منذ عام 1699وقضى أغلب حياته في أراضي الامبراطورية العثمانية ورسم مشاهد
من قصر طوبقابي الشهير مركز إقامة سلاطين الدولة.
شملت المعروضات ايضا المزججات والسيراميك الشرقي التي
تعود إلى العصر المملوكي في مصر وسوريا والتي تدعم فكرة المعرض عن موضة الاستشراق
في القرن التاسع عشر التي شهدت رواجا تجاريا في إقتناء السجاد والتحف السيراميك الإسلامي
والشرقي.
خرائط للمدن العربية
ضمن المعروضات خريطة لبيت المقدس تعود إلى عام 1486
للفنان الهولندي ارهارد رويش وهي تركز بالرسوم والشرح على مدينة القدس وكنائسها وتشير
لمواقع جبل سيناء ودمشق والقاهرة ومكة وغيرها من مدن العالم الاسلامي، هذه الخرائط
النادرة هي الجزء المصور من أقدم كتاب للرحلات يعود إلى عصر النهضة بعنوان (الحج إلى
الأراضي المقدسة)، وهو رحلة حج لنبيل وفارس ألماني يدعى (برنارد فون بريندباخ) إلى
بيت المقدس مع مجموعة من أصدقائه ومن بينهم ارهارد رويش.
ومن بين المعروضات، خوذة عثمانية منقوشة بالزخارف وآيات
من القرآن لفنان عثماني مجهول وهي من غنائم الحرب التي غنمها ملك بولندا جون
سوبيسكي الثالث بعد أن أفشل حصار فينيا الثاني عام 1683 وإنتصر على العثمانين في
عهد السلطان العثماني محمد الرابع.
غابت لوحات المستشرقين عن (الحريم) وهي الثيمة
الايروتيكية المترافقة مع فن الاستشراق غالبا، ومع ذلك فقد عُرضت لوحات حريم بعيدة
عن الصورة النمطية في الإغواء، مثل لوحة (أمراة شرقية تشعل بخورا) للفنان الايطالي
(سيزار ديل أكوا 1821_1905) وهي تصوير لأمراة تحرق بخورا ويعنى الفنان بتفاصيل
لبسها والسبحة في يدها والمبخرة والدخان المتصاعد المتوافق مع نظرتها الساهمة.
هناك لوحة اخرى بعنوان (فتاة
تقرأ) تعود إلى عام 1880 للفنان وعالم الآثار العثماني (عثمان حمدي بيك1842-1910)،
الذي عاش في باريس وتتلمذ على يد المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم. ويصور فيها فتاة
تجلس مثنية الركبتين على سجادة صلاتها وتقرأ القرآن المحمول على مسند خشبي قبالتها.
بيعت هذه اللوحة في سبتمبر الماضي بمبلغ 6.3 مليون جنيه استرليني في أحد مزادات
لندن وهي أغلى لوحة فنية عثمانية
خُصصْ الجزء الأخير من
المعرض للفن المعاصر، عبر أعمال فنانات عربيات او من العالم الاسلامي. تبنتْ
الفنانات فكرة الإستشراق من وجهة نظر العارف المنتقد أحيانا، باستخدام الصور
النمطية كالبرقع والحجاب، مع ايماءات تتركز حول العنف الذي المترادف مع الاسلام
لدى الغرب في الوقت الراهن.
الفنانة الفلسطينية المعاصرة رائدة سعادة عرضتْ لوحة لأمراة ترتدي عباءة من
ورق الصحف العربية وعلى خلفية من صحف عربية ايضا، تبدو المرأة سجينة العباءة
والخلفية التي ترمز إلى السياسة والإعلام المساند لها لكنها تنظر مباشرة بتحد الى الزائر،
معلنة عن وجودها القوي. بينما عرضتْ الفنانة الايرانية شيرين نشأت أحد أعمالها من
سلسلة (امراة الله) حيث تستخدم نفسها كموديل ترتدي شادور أبيض مزين بالحروف الفارسية
على
خلفية سوداء وتجلس مثنية الركبتين وبحالة تضرع لكن هناك بندقية تستريح بالقرب
منها
أحد مميزات المعرض أنه استعاد زمنا كانت به صور
المسلمين والإسلام والشرق عموما تثير الخيال وتغري المشاهد للتمعن في تفاصيل ثقافة
بعيدة مجهولة، لاتستفز ولاتثير هلع أحد، وهو
محاولة ناجحة لإستعادة فن الاستشراق وتجريده من بعض دلالاته الخبيثة التي مهدت
للإستعمار، وتنشيط ذاكرة الزوار لفن كان أبرز سماته الفضول المعرفي والاحترام والاهتمام
بثقافة مغايرة.
*عن صحيفة الرياض السعودية
No comments:
Post a Comment