لايحسّ بجمال جسد عارٍ إلا السلالات الكاسية (بيسوا)
بين أفعى الفايروس وافعى السأم هل ينجو (لاوكون وولداه)
لم أتخيل للحظة أن ذلك النصب الكبير المحيّر
في متحف الفاتيكان الذي وقفتُ امامه مبهورة قبل أعوام قليلة هو لكاهن، اذ لا شيء
يوحي بذلك اطلاقا، كنت مأخوذة ببراعة النحات ودقته في تصوير الصراع بين ثلاثة شخوص
بشرية، رجل كهل وطفلين، وبين الأفعتين اللتين انسابتا بين اطرافهم وأجسامهم.
انشغلتُ حينها بالإحاطة بتعابير وجه الرجل الملتاع بالألم والخوف موتا بلدغة احدى
الأفعتين، وإنحناءات جسده في محاولة للفكاك من خنق الاخرى، وحركة ساقيه ودقة نحت
ركبتيه المتشنجتين وهيئته المتحفزة المستندة عل اصابع قدميه وكذلك تكوين الولدين
بجانبه وحركتهما. كان واضحا أن الثلاثة قد جمعهم حبلُ الأفعتيين، كأن حبل الموت
الملتف عليهم هو رباط الدم والحياة بينهم، لا نجاة لأحد بدون الآخرين. درتُ حول
التمثال مرارا، لم يكن هذا التكوين المرمري ممسرحا بأي حال، فالمتمعن فيه يشعر بأن
تلك اللحظة الزمنية قد جمدتْ على ذلك الفزع ولا شيء آخر، لم انتبه لعنوان التكوين
النحتي أو أصله أو حتى اسم الفنان الذي ابدعه، في مثل تلك اللحظات يستحوذ عليّ
الجمال الخالص وأحاول التملص من كل ماعداه عمدا، والتجرد من معرفة الأسماء
والتواريخ للتماهي الكلي في الجمال المرئي. بقيّ ذلك التكوين المدهش (لاوكون
وولداه) في ذاكرتي مثلما بقي في ذاكرة كاميرتي.
ونحن نكابد ايامنا هذه بين أفعتين، أفعى
الوباء خارج بيوتنا وأفعى السأم داخل بيوتنا، استعيد هذا التكوين المرمري الذي لم
ار شبيها له في كل المتاحف التي زرتها بعد ذلك، فالفنان الذي أبدعه كان يتقصد
احداث تأثيرا دراميا قويا، فالمعركة كانت ولا تزال حامية الوطيس بين كائنات عاقلة وكائنات
غير عاقلة، ولعل الدراما هي سمة من سمات الفن الهيليني المتأخر، الذي كان يهدف إلى
إثارة مشاعر قوية وعنيفة، تتعمد تحفيز غرائز البقاء على قيد الحياة كما في ميدان
المجادلة. وهذه السمة بالذات تبين اختلاف هذا الفن عن هدوء واطمئنان التماثيل الإغريفية
التي سبقته.
أكتشفتْ (مجموعة لاوكون) او الكاهن لاوكون
وولداه عام 1506 ميلادية في احد مزارع العنب القريبة من روما وكان من بين من
أشرفوا على استخراجه من باطن الأرض فنان عصر النهضة الشهير مايكل انجلو في عهد
البابا يوليوس الثاني الذي اشتراه من مالك الارض، وهو الان من مقتنيات متحف
الفاتيكان وقد جاء ذكر التمثال ومواصفاته في كتابات المؤرخ الروماني بلينيوس
الكبير الذي عاش في القرن الأول الميلادي والذي وصفه وبيّن انه نُحِتَ من كتلة
واحدة من المرمر بما في ذلك الأفعتين وتموجات جسديهما، نسبه بلينيوس إلى ثلاثة نحاتين
من جزيرة رودس هم (أجيساندر
وأثينودوروس وبوليدوروس). وأشار إلى مكانه في قصر الامبراطور الروماني تيتوس الذي
نُصبْ امبراطورا بين عامي (79_81) ميلادية لكنه لم يعط أي تاريخ محدد لإنجازه ويرجح ذلك بين (68-27 )
قبل الميلاد، وهذا التمثال يمثل قمة ما وصلت اليه فنون العصر الهليني وهو بالحجم الطبيعي ويقارب
المترين ارتفاعا. كان لهذا التكوين النحتي أثر بالغ في نفوس الفنانين الذين درسوه
ورسموه بعد ذلك، لانه يمثل الإيقونة النموذجية لفن النحت الغربي الذي يجسد عذاب الأنسان في لحظات المحنة ومواجهة خطر الموت، وهو خلافا لكل الأعمال الفنية
التي تستلهم عذاب الانسان والتضحية حسب روايات العهد القديم والجديد، فان هذا
العمل الفني الخلاق يمثل العذاب لذاته ولا شيئ بعده، أي لا مكافاة لاحقة له سواء
كانت دنيوية أو آخروية. يتجلى هذا العذاب بتعابير الوجه المنقبضة نحو الداخل
للكاهن لاوكون التي تتوائم وتتناقض تماما مع حركات الجسد وهو ينفتح في بعض اطرافه
للتخلص من مسببات ذلك العذاب، التكوين النحتي مستوحى من الإلياذة للشاعرفيرجيل،
ويجسد قصة (لاوكون) الذي كان كاهنا للاله بوسيديون إله البحر. حاول لاوكون كشف
حيلة الحصان الخشبي واضرام النار فيه وتحذير مواطني طروادة من الصلح وقبوله الحصان
كهدية من الاغريق، لكن الآلهة أثينا التي كانت تريد احتلال طروادة غضبت من الكاهن
وأرسلت أفعتين هائلتين من البحر إلتفتا على الكاهن وولديه. هذه القصة هي واحدة من
القصص العبثية التي اقترفتها الآلهة بحق ناس أبرياء، وهي قصص مكررة في أساطير
اليونان والرومان لكن المثير هنا حقا كيف تمثّلَ الفنان الاغريقي هذه القصة في هذا
النصب؟ هل أراد أن يشعرنا بهول المشهد الذي يتعذب فيه ضحايا أبرياء؟ ام أن الفنان
أراد إظهار قدرته وبراعته على تصوير صراع مرعب ومثير بين الإنسان وقوى الطبيعة. ان
الطريقة التي نُحتت بها عضلات الجذع والذراعين دليل على فداحة هذا الصراع الذي لا
أمل منه، والإلتياع الذي يعبّر عنه وجه الكاهن واستسلام الولدين المخذولين
ونظراتهما المتوجهة إلى والدهما والطريقة التي جٌمدتْ بها هذه المعركة التي توشك أن
تستأنف ضراوتها بين لحظة واخرى، الأفعى هنا تعض وتخنق وهي حينما تلتف على الشخوص
فانها تُظهر السبب الأشد ألماً لمواجهة الموت. يبدو ان هناك بارقة أمل بنجاة الولد
الكبير ذي الرداء المعلّق على احد ذراعيه وربما حركة الشخوص توحي بهذا، بينما
يكابد الكاهن عضة الافعى ويحاول التملص منها بغمرة عذابه، في حين أن الولد الآخر
تلقى السم في جسده وهو يوشك أن يغمض عينيه للأبد.
أثار (لاوكون وولداه) بكل صراعه الدرامي
والحركي والتعبيري الاعجاب منذ القرن الأخير قبل الميلاد وحتى وقتنا الراهن وهناك
نسخة منه في حدائق قصر فيرساي في فرنسا. وحينما أُستخرجَ التمثال من باطن الارض
كانت الذراع اليمنى للكاهن مفقودة مع جزء من يد أحد الولدين والذراع اليمنى للآخر
وأجزاء من منحنيات الأفعتين. ناقش فنانو عصر النهضة حينها فكرة تعويض الأجزاء
المفقودة من التمثال، اقترح مايكل انجلو أن الذراع المفقودة يجب أن تكون مرفوعة ومثنية
للخلف، واعتقد اخرون أن الذراع المفقودة كانت ستكون ممدودة نحو الخارج بحركة عنيفة
وبحسب الفنان ومؤرخ عصر النهضة جورجيو فيزاري (1511-1574) فان اجتماعا عُقِدَ
برئاسة رافائيل لماقشة تعويض الذراع المفقودة وانتهت اللجنة إلى تعويضها بذراع
ممدودة وهكذا عُرض التمثال. عام 1901 اكتشف الأركيولوجي لودفيك بولاك ذراعا اثرية
بالصدفة في ورشة حرفية ليست بعيدة عن مكان اكتشاف التمثال قبل هذا التاريخ بأربعة
قرون في روما، تبرع الاركيولوجي لمتحف الفاتيكان باليد التي بقيت منسية في خزائن المتحف
حتى عام 1957 بعدها قررت إدارة المتحف ان هذه الذراع المثنية تعود إلى تمثال لايكون
وولديه حسبما تكهن مايكل انجلو وهكذا يعرض التمثال الآن بمتحف الفاتيكان.
*عن صحيفة الرياض السعودية
No comments:
Post a Comment