Tuesday, 23 June 2020

الفن سلاحا ضد العنصرية / الفنان الفرنسي تشالز وردييه


يقول الفنان والإثنوغرافي الفرنسي تشالز كوردييه: "الجمال ليس حكرا على عرق نبيل أوحد، لقد روجتُ عبر أعمالي الفنية لفكرة أن الجمال موجود بكل مكان. كل عرق أو جنس له مميزاته الجمالية التي قد تختلف مع المميزات الجمالية لبقية الأعراق. فإنسان جميل ذو بشرة سوداء هو بالضرورة ليس الأجمل بالنسبة لنا".
ولد تشالز كوردييه في مقاطعة كامبريه شمال شرق فرنسا عام 1827 ويعد أحد أفضل نحاتي القرن التاسع عشر في فرنسا، عُينَ بصفة نحات مختص بالأعراق البشرية في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس لمدة خمسة عشر عاما، بعد أن انهى دراسته الفنية في أكاديمية خاصة في باريس لتعليم الفنون والرياضيات.



كان لقاؤه في بداية حياته الفنية بسعيد عبدالله وهو زعيم لأحد قبائل درافور السودان وعبد سابق سببا في تغيير مسار حياته الفنية، فقد جعله موديله لتمثال نصفي، لاحقا عرض هذا التمثال النصفي الذي يستلهم اسلوب رومانتيكية الاستشراق الذي بلغ ذروته في القرن التاسع عشر، في صالون باريس عام 1848 ونال شهرة كبيرة ولفت اليه الأنظار لأن سنة عرضه تزامنت مع قانون منع العبودية في فرنسا ومستعمراتها، حدّ أن الحكومة الفرنسية طلبت من كوردييه نسخة برونزية اخرى من التمثال، وإقتنتْ الملكة فكتوريا نسخة برونزية ثالثة لهذا التمثال عند عرضه في لندن عام 1851 في المعرض العالمي الاول الذي أقيم في حديقة الهايدبارك في لندن. وفي مذكراته غير المنشورة يقول كوردييه:" منحوتاتي تجسيد لنبذ العبودية وتؤرخ لبداية الأثنوغرافيا فنيا". وكنحات مؤسس للاثنوغرافيا كان هدف كوردييه ترسيخ افكاره التي بشر بها عن كونية الجمال، وكان دائما ينحت تمثاليين نصفيين لأمراة ورجل من نفس العرق. وفي سنوات عمله في متحف التاريخ الطبيعي كنحات متخصص في الاثنوغرافيا حيث أبدع سلسلة من التماثيل النصفية النابضة بالحياة والتي استوحاها من المشاهدة العميقة والدقيقة للسكان المحليين وأزيائهم وملامحهم خلال رحلاته التي قام بها إلى شمال افريقيا واليونان. وكانت تماثيله النصفية تظهر الذوق السائد لمنحوتات القرن التاسع عشر من تداخل البرونز والمرمر وغيرها من المواد وكذلك استعمال أكثر من لون في التمثال الواحد وهي ظاهرة انتشرت عقب نقاشات الفنانين في تلوين أو استخدام المرمر الملون استلهاما للمنحوتات الرومانية وتماثيل عصر النهضة. حيث طعّمَ كوردييه أغلب منحوتاته ببراعم برونزية مطعمة بالمينا مما اضاف اثارة واقعية وجعلها أكثر رواجا.



الترحال إلى الشرق
عام 1856 قاده ولعه بعلم الاثنوغرافيا وموجة الاستشراق التي راجت في القرن التاسع عشر، إلى رحلته الاولى للجزائر لمدة ستة أشهر وبتمويل من متحف التاريخ الطبيعي، واختار الإقامة وسط  حي القصبة الشعبي بدلا من السكن مع غيره من الفرنسيين المغتربين، ويبدو انه اندمج سريعا مع السكان المحليين يقول في مذكراته:" أقمتُ في حي شعبي ويبدو أن السكان هنا اعتادوا عليّ سريعا، فبابي مفتوح للجميع وقمت بإستضافة عدد لا بأس به من الزوار".
وفي الجزائر أكتشف كوردييه حجر الجزع وهو حجر مرمري يشابه حجر العقيق في محجر أثري أعادت السلطات الفرنسية فتحه واستعمله لاحقا كمادة أولية في منحوتاته. من أبرز تماثيله النصفية الثلاثة عشر التي أنجزها في الجزائر تمثال لسيدة يهودية من سكان الجزائر المحليين ومثل مواطنه ديلاكروا الذي صوّر نساء يهوديات في لوحته الشهيرة(نساء من الجزائر) وذلك بسبب صعوبة مشاهدة النساء المسلمات والدخول إلى غرف الحريم، وهذا التمثال هو تجسيد مذهل خاص وغاية في البراعة لجمال ملامح وأزياء سيدة محددة أكثر منه تجسيد عرق أو جنس بأكمله. التمثال الذي بيع عام 2017 في مزاد سوثبي بمبلغ يقارب النصف مليون جنيه استرليني، مشغول بمهارة وبعدة مواد من المرمر الجزائري الأصفر للجذع إلى البرونز للوجه والرقبة والجزء المزخرف الأعلى من رداء السيدة، التمثال الذي يظهر براعة كوردييه في تخريم البرونز وتطعيمه بحجر المينا وبقية الأحجار الكريمة كما فعل مع غطاء رأس السيدة. بينما زُججتْ العينان للمزيد من الواقعية.


قادته رحلة اخرى إلى مصر عام 1865 وكان من أبرز التماثيل المستلهمة من رحلته تلك تمثال برونزي نصفي لشيخ مجهول من القاهرة عرض نهاية العام الماضي ضمن أعمال فنية اخرى في المتحف البريطاني ضمن معرض (إستلهام الشرق وإستعادة الإستشراق فنيا)، هذا التمثال يظهر بارعة كوردييه ليس في التجسيد الحاذق لموضوعه فقط بل بفهمه واحترامه لعادات الناس وتقالديهم، الشيخ المصري مزيج من الرفعة والبساطة ونظرة البدوي الثاقبة. وهناك تفاصيل جميلة في هذا التمثال مثل طيات العباءة على الكتفين وزخارف غطاء الرأس واللحية غير المشذبة.



قادته اسفاره العديدة ايضا إلى استبطان مجموعة تصورات جمالية عن أعراق البشر المختلفة وكان هدفه ايضا هو الكشف عن أصول هذه الأعراق. وقد مزج في دراسته لهذه الأعراق مجموعة معارفه الأكاديمية مع شغفه بالبيئة الشرقية ذات الالوان القوية الساطعة. وكانت أعماله النحتية اضافة مهمة لإحياء اسلوب النحت الملّون في القرن التاسع عشر.



لم تقتصر منحوتاته على أناس الشرق الأوسط وأفريقيا بل نحت تماثيل نصفية لأناس من مختلف أنحاء فرنسا وأوربا، لكن عقيدته الفنية كانت تعارض ماكان سائدا في عصره من النظرة الإستعلائية للعرق الأوربي. وأغلب منحوتاته لازالت موجودة في متحف الانسان في باريس. كان لكوردييه مساهمة فعالة في بناء عدة مبان في باريس خلال حكم نابليون الثالث (1848_1870) مثل دار الأوبرا ومتحف اللوفر ومبنى بلدية باريس.
توفي تشالز كوردييه في الجزائر عام 1905.     


عن صحيفة الشرق الأوسط*

Tuesday, 16 June 2020

عن مجموعة لايكون في متحف الفاتيكان


لايحسّ بجمال جسد عارٍ إلا السلالات الكاسية (بيسوا) 

بين أفعى الفايروس وافعى السأم هل ينجو (لاوكون وولداه) 


لم أتخيل للحظة أن ذلك النصب الكبير المحيّر في متحف الفاتيكان الذي وقفتُ امامه مبهورة قبل أعوام قليلة هو لكاهن، اذ لا شيء يوحي بذلك اطلاقا، كنت مأخوذة ببراعة النحات ودقته في تصوير الصراع بين ثلاثة شخوص بشرية، رجل كهل وطفلين، وبين الأفعتين اللتين انسابتا بين اطرافهم وأجسامهم. انشغلتُ حينها بالإحاطة بتعابير وجه الرجل الملتاع بالألم والخوف موتا بلدغة احدى الأفعتين، وإنحناءات جسده في محاولة للفكاك من خنق الاخرى، وحركة ساقيه ودقة نحت ركبتيه المتشنجتين وهيئته المتحفزة المستندة عل اصابع قدميه وكذلك تكوين الولدين بجانبه وحركتهما. كان واضحا أن الثلاثة قد جمعهم حبلُ الأفعتيين، كأن حبل الموت الملتف عليهم هو رباط الدم والحياة بينهم، لا نجاة لأحد بدون الآخرين. درتُ حول التمثال مرارا، لم يكن هذا التكوين المرمري ممسرحا بأي حال، فالمتمعن فيه يشعر بأن تلك اللحظة الزمنية قد جمدتْ على ذلك الفزع ولا شيء آخر، لم انتبه لعنوان التكوين النحتي أو أصله أو حتى اسم الفنان الذي ابدعه، في مثل تلك اللحظات يستحوذ عليّ الجمال الخالص وأحاول التملص من كل ماعداه عمدا، والتجرد من معرفة الأسماء والتواريخ للتماهي الكلي في الجمال المرئي. بقيّ ذلك التكوين المدهش (لاوكون وولداه) في ذاكرتي مثلما بقي في ذاكرة كاميرتي.
ونحن نكابد ايامنا هذه بين أفعتين، أفعى الوباء خارج بيوتنا وأفعى السأم داخل بيوتنا، استعيد هذا التكوين المرمري الذي لم ار شبيها له في كل المتاحف التي زرتها بعد ذلك، فالفنان الذي أبدعه كان يتقصد احداث تأثيرا دراميا قويا، فالمعركة كانت ولا تزال حامية الوطيس بين كائنات عاقلة وكائنات غير عاقلة، ولعل الدراما هي سمة من سمات الفن الهيليني المتأخر، الذي كان يهدف إلى إثارة مشاعر قوية وعنيفة، تتعمد تحفيز غرائز البقاء على قيد الحياة كما في ميدان المجادلة. وهذه السمة بالذات تبين اختلاف هذا الفن عن هدوء واطمئنان التماثيل الإغريفية التي سبقته. 


أكتشفتْ (مجموعة لاوكون) او الكاهن لاوكون وولداه عام 1506 ميلادية في احد مزارع العنب القريبة من روما وكان من بين من أشرفوا على استخراجه من باطن الأرض فنان عصر النهضة الشهير مايكل انجلو في عهد البابا يوليوس الثاني الذي اشتراه من مالك الارض، وهو الان من مقتنيات متحف الفاتيكان وقد جاء ذكر التمثال ومواصفاته في كتابات المؤرخ الروماني بلينيوس الكبير الذي عاش في القرن الأول الميلادي والذي وصفه وبيّن انه نُحِتَ من كتلة واحدة من المرمر بما في ذلك الأفعتين وتموجات جسديهما، نسبه بلينيوس إلى ثلاثة نحاتين من جزيرة رودس هم (أجيساندر وأثينودوروس وبوليدوروس). وأشار إلى مكانه في قصر الامبراطور الروماني تيتوس الذي نُصبْ امبراطورا بين عامي (79_81) ميلادية لكنه لم يعط أي تاريخ محدد لإنجازه ويرجح ذلك بين (68-27 ) قبل الميلاد، وهذا التمثال يمثل قمة ما وصلت اليه فنون العصر الهليني وهو بالحجم الطبيعي ويقارب المترين ارتفاعا. كان لهذا التكوين النحتي أثر بالغ في نفوس الفنانين الذين درسوه ورسموه بعد ذلك، لانه يمثل الإيقونة النموذجية لفن النحت الغربي الذي يجسد عذاب الأنسان في لحظات المحنة ومواجهة خطر الموت، وهو خلافا لكل الأعمال الفنية التي تستلهم عذاب الانسان والتضحية حسب روايات العهد القديم والجديد، فان هذا العمل الفني الخلاق يمثل العذاب لذاته ولا شيئ بعده، أي لا مكافاة لاحقة له سواء كانت دنيوية أو آخروية. يتجلى هذا العذاب بتعابير الوجه المنقبضة نحو الداخل للكاهن لاوكون التي تتوائم وتتناقض تماما مع حركات الجسد وهو ينفتح في بعض اطرافه للتخلص من مسببات ذلك العذاب، التكوين النحتي مستوحى من الإلياذة للشاعرفيرجيل، ويجسد قصة (لاوكون) الذي كان كاهنا للاله بوسيديون إله البحر. حاول لاوكون كشف حيلة الحصان الخشبي واضرام النار فيه وتحذير مواطني طروادة من الصلح وقبوله الحصان كهدية من الاغريق، لكن الآلهة أثينا التي كانت تريد احتلال طروادة غضبت من الكاهن وأرسلت أفعتين هائلتين من البحر إلتفتا على الكاهن وولديه. هذه القصة هي واحدة من القصص العبثية التي اقترفتها الآلهة بحق ناس أبرياء، وهي قصص مكررة في أساطير اليونان والرومان لكن المثير هنا حقا كيف تمثّلَ الفنان الاغريقي هذه القصة في هذا النصب؟ هل أراد أن يشعرنا بهول المشهد الذي يتعذب فيه ضحايا أبرياء؟ ام أن الفنان أراد إظهار قدرته وبراعته على تصوير صراع مرعب ومثير بين الإنسان وقوى الطبيعة. ان الطريقة التي نُحتت بها عضلات الجذع والذراعين دليل على فداحة هذا الصراع الذي لا أمل منه، والإلتياع الذي يعبّر عنه وجه الكاهن واستسلام الولدين المخذولين ونظراتهما المتوجهة إلى والدهما والطريقة التي جٌمدتْ بها هذه المعركة التي توشك أن تستأنف ضراوتها بين لحظة واخرى، الأفعى هنا تعض وتخنق وهي حينما تلتف على الشخوص فانها تُظهر السبب الأشد ألماً لمواجهة الموت. يبدو ان هناك بارقة أمل بنجاة الولد الكبير ذي الرداء المعلّق على احد ذراعيه وربما حركة الشخوص توحي بهذا، بينما يكابد الكاهن عضة الافعى ويحاول التملص منها بغمرة عذابه، في حين أن الولد الآخر تلقى السم في جسده وهو يوشك أن يغمض عينيه للأبد. 


أثار (لاوكون وولداه) بكل صراعه الدرامي والحركي والتعبيري الاعجاب منذ القرن الأخير قبل الميلاد وحتى وقتنا الراهن وهناك نسخة منه في حدائق قصر فيرساي في فرنسا. وحينما أُستخرجَ التمثال من باطن الارض كانت الذراع اليمنى للكاهن مفقودة مع جزء من يد أحد الولدين والذراع اليمنى للآخر وأجزاء من منحنيات الأفعتين. ناقش فنانو عصر النهضة حينها فكرة تعويض الأجزاء المفقودة من التمثال، اقترح مايكل انجلو أن الذراع المفقودة يجب أن تكون مرفوعة ومثنية للخلف، واعتقد اخرون أن الذراع المفقودة كانت ستكون ممدودة نحو الخارج بحركة عنيفة وبحسب الفنان ومؤرخ عصر النهضة جورجيو فيزاري (1511-1574) فان اجتماعا عُقِدَ برئاسة رافائيل لماقشة تعويض الذراع المفقودة وانتهت اللجنة إلى تعويضها بذراع ممدودة وهكذا عُرض التمثال. عام 1901 اكتشف الأركيولوجي لودفيك بولاك ذراعا اثرية بالصدفة في ورشة حرفية ليست بعيدة عن مكان اكتشاف التمثال قبل هذا التاريخ بأربعة قرون في روما، تبرع الاركيولوجي لمتحف الفاتيكان باليد التي بقيت منسية في خزائن المتحف حتى عام 1957 بعدها قررت إدارة المتحف ان هذه الذراع المثنية تعود إلى تمثال لايكون وولديه حسبما تكهن مايكل انجلو وهكذا يعرض التمثال الآن بمتحف الفاتيكان. 

*عن صحيفة الرياض السعودية 

Wednesday, 10 June 2020

عن الشرق الملهم

كيف استلهم الفنانون الغربيون الحضارة الإسلامية





الاستشراق كما يعرفه المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد؛ هو التيار الذي تبناه بعض مفكري الغرب حين توجهوا بالبحث المعرفي لمنطقة الشرق عن طريق الترحال والترجمة للوقوف على معالم الفكر والتاريخ والثقافة الشرقية. والاستشراق فنيا هو تمثيل الشرق بلوحات الفنانين الغربيين وغالبا مايكون هذا التمثيل مزيجا من الرومانسية الفنية والإحتفاء بالتفاصيل الشرقية والألوان المضيئة القوية. ويصعب تحديد بداية لفن الاستشراق، لكن سيطرة السطان محمد الفاتح على القسطنطينية وما تلى ذلك من توسع للامبراطورية العثمانية نحو أوربا الشرقية جعل الكثير من التجار والفنانين الأوربيين والبعثات الدبلوماسية يرتحلون نحو الشرق. ولعل بورتريت فنان عصر النهضة الإيطالي (جنتيلي بيليني 1429_1507) للسلطان محمد الفاتح الذي يعود إلى العام 1480 ربما يؤرخ لبداية هذه الحركة فنيا، فقد أرسِلَ بيليني من قبل حكومة مدينة البندقية إلى القسطنطينية عام 1479  
بناءا على طلب السلطان محمد الفاتح، أُعيد رسم هذا البورتريت وطباعته في انحاء أوربا. 

السلطان محمد الفاتح لوحة فنان عصر النهضة جنتيلي بيليني عام1480 

تأثر أسلوب الرسم الغربي بثقافة الشرق وطبيعته وتفاصيله وملامحه وتنوعه وغرابته التي مزجت الخرافة والأسطورة والطرافة والسحر والواقع. وصلت حركة الاستشراق الفنية ذروتها خلال القرن التاسع عشر وقبل ذلك اسهمت ترجمة المستشرق الفرنسي (انطوان غالان 1646_ 1715) لقصص ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، بعد أن جمع الحكايات الشفوية من مقاه بغداد ودمشق وظهرت تباعا في اثني عشر مجلدا، في خلق صورة خيالية عن الشرق، وكانت لوحات المستشرقين تلقى رواجا كبيرا لدى الجمهور في أوربا وأمريكا. ورغم ان الاستشراق إسقاط غربي على الشرق بُنِيَّ على أسس التثاقف والبحث لكنه في عمقه هيّأ للاحتلال الأوربي والسماح لمنتسبي الجيوش الاوربية والتجار والفنانين من الدخول إلى القصور والمساجد ومشاهدة ناسها والتعرف على تفاصيل حياتهم اليومية. 

 لوحة للسلطان العثماني بايزيد الثاني لفنان من عصر النهضة من مدينة البندقية 

وقبيل جائحة كرونا العالمية، شهد المتحف البريطاني في لندن معرضا فنيا بعنوان (إستلهام الشرق/ كيف أثر العالم الاسلامي بالفن الغربي). استلهم القائمون على المعرض أفكار ادوارد سعيد في ضرورة احترام المستشرقين للتفاصيل الواقعية للحياة البشرية في الشرق، والتفهم النابع من النظر إلى الآخر نظرة ودّ وتراحم، والمعرفة التي تُكتسب وتُنشر بأمانة أخلاقية وفكرية، فهذه الأهداف أفضل من الإستعلاء والعداء الذي يختزل الخصوم ويحقّرهم. قدم المعرض فن الاستشراق كفعل تفاعلي طويل الأمد بين الشرق والغرب لم يقتصر تأثيره على الرسم فقط بل شمل فن السيراميك وكتب الرحلات والخرائط والزخارف والأزياء. 

نجح المعرض في جلّ أهدافه، بدءً من عرضه لوحة الطبعة الاولى لكتاب ادوارد سعيد الاستشراق وهي لوحة (ساحر الافاعي) للفنان الفرنسي (جون ليون جيروم1824_1904) الذي قام بأول رحلة له الى تركيا ومصرعام 1854 حيث التقى بالخديوي اسماعيل ودوّن يومياته ومذكراته لتلك الرحلة. وقد دُعي جيروم مع عدد من المستشرقين الفرنسيين إلى حفل افتتاح قناة السويس عام 1869 وكان قد وصل القاهرة قبل ذلك بسنة وزار جوامعها وبناياتها الأثرية وصوّرها. لوحة (ساحر الافاعي) تصور ولداً يلتف حول جسده ثعبان ويستعرض مهاراته امام حشد بسيط من المتفرجين يجلسون على الأرض ويتكئون على جدار منقوش بالزخارف والخطوط العربية. في هذه اللوحة تمتزج الدراما الرومانسية لفناني الاستشراق وواقعية الحياة اليومية للمدن الشرقية. 


الصلاة في لوحات المستشرقين
من بين ابرز المعروضات، لوحة (المصلي/ 1877) وهي عمل روحاني مهيب للمستشرق الأمريكي فريديريك آرثر برديجمان الذي زار مصر عام 1770 وبقي فيها عدة سنوات. في لوحته (المصلي) يصور برديجمان شخصين أثناء الصلاة، كهلا يبدو مترفا من ثيابه يرفع رأسه نحو السماء استعدادا للصلاة وشخص آخر مرقع الرداء في حالة الركوع، يستلهم الفنان في هذه اللوحة المساواة الاجتماعية بين الناس في المساجد وفي الصلاة خصوصا، وهناك تفاصيل شرقية كثيرة في اللوحة من السجاد إلى فوانيس المسجد وأعمدته وابوابه. 




 تبدو ثيمة الصلاة الذكورية في أعمال الأستشراقيين مرادفة لثيمة الحريم الأنثوية، فهناك لوحة بورتريه اخرى لمصلٍ بدوي يؤدي صلاته في الفضاء الطلق وخلفه تبدو التلال الحمراء في تناغم مع ثنيات عبائته وهو يرفع يديه ايذانا ببدء الصلاة، اللوحة للفنان والمترجم الفرنسي(ألفونسو دينيه 1861_1929) الذي زار الجزائر لأول مرة عام 1883، ثم عاد ليستقر فيها بعد ان إعتنق الإسلام وغير أسمه إلى نصرالدين دينات وأتقن العربية وكتب عدة كتب بالفرنسية منها (الشرق كما يراه الغرب) وترجمه إلى العربية عمر فاخوري وأيضا له (السيرة النبوية) وهو مجلد من عدة أجزاء كتبه بمساعدة صديقه الجزائري سليمان بن ابراهيم وزينه بالصور الملونة لمعالم الجزائر الإسلامية وصدر باللغتين الفرنسية والإنكليزية وترجمه إلى العربية عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم. توفي نصرالدين في باريس لكنه دفن في مدينة بوسعادة في الجزائر بناءا على وصيته وهناك  
متحف في المدينة مخصص له. 



لم يكتف بعض المستشرقين بالتصوير والكتابة وإقتناء التحف الشرقية، بل عاشوا جلّ حياتهم في العالم الإسلامي، وأعتنق بعضهم الاسلام، مثل الفنان الفنلندي جان بابتيست فانمور الذي خدم في اسطنبول ضمن بعثة السفارة الفرنسية منذ عام 1699وقضى أغلب حياته في أراضي الامبراطورية العثمانية ورسم مشاهد من قصر طوبقابي الشهير مركز إقامة سلاطين الدولة.             
شملت المعروضات ايضا المزججات والسيراميك الشرقي التي تعود إلى العصر المملوكي في مصر وسوريا والتي تدعم فكرة المعرض عن موضة الاستشراق في القرن التاسع عشر التي شهدت رواجا تجاريا في إقتناء السجاد والتحف السيراميك الإسلامي والشرقي.


خرائط للمدن العربية
ضمن المعروضات خريطة لبيت المقدس تعود إلى عام 1486 للفنان الهولندي ارهارد رويش وهي تركز بالرسوم والشرح على مدينة القدس وكنائسها وتشير لمواقع جبل سيناء ودمشق والقاهرة ومكة وغيرها من مدن العالم الاسلامي، هذه الخرائط النادرة هي الجزء المصور من أقدم كتاب للرحلات يعود إلى عصر النهضة بعنوان (الحج إلى الأراضي المقدسة)، وهو رحلة حج لنبيل وفارس ألماني يدعى (برنارد فون بريندباخ) إلى بيت المقدس مع مجموعة من أصدقائه ومن بينهم ارهارد رويش.
ومن بين المعروضات، خوذة عثمانية منقوشة بالزخارف وآيات من القرآن لفنان عثماني مجهول وهي من غنائم الحرب التي غنمها ملك بولندا جون سوبيسكي الثالث بعد أن أفشل حصار فينيا الثاني عام 1683 وإنتصر على العثمانين في عهد السلطان العثماني محمد الرابع.


 غابت لوحات المستشرقين عن (الحريم) وهي الثيمة الايروتيكية المترافقة مع فن الاستشراق غالبا، ومع ذلك فقد عُرضت لوحات حريم بعيدة عن الصورة النمطية في الإغواء، مثل لوحة (أمراة شرقية تشعل بخورا) للفنان الايطالي (سيزار ديل أكوا 1821_1905) وهي تصوير لأمراة تحرق بخورا ويعنى الفنان بتفاصيل لبسها  والسبحة في يدها والمبخرة والدخان المتصاعد المتوافق مع نظرتها الساهمة. 


هناك لوحة اخرى بعنوان (فتاة تقرأ) تعود إلى عام 1880 للفنان وعالم الآثار العثماني (عثمان حمدي بيك1842-1910)، الذي عاش في باريس وتتلمذ على يد المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم. ويصور فيها فتاة تجلس مثنية الركبتين على سجادة صلاتها وتقرأ القرآن المحمول على مسند خشبي قبالتها. بيعت هذه اللوحة  في سبتمبر الماضي بمبلغ 6.3 مليون جنيه استرليني في أحد مزادات لندن وهي أغلى لوحة فنية عثمانية 





 خُصصْ الجزء الأخير من المعرض للفن المعاصر، عبر أعمال فنانات عربيات او من العالم الاسلامي. تبنتْ الفنانات فكرة الإستشراق من وجهة نظر العارف المنتقد أحيانا، باستخدام الصور النمطية كالبرقع والحجاب، مع ايماءات تتركز حول العنف الذي المترادف مع الاسلام لدى الغرب في الوقت الراهن. 
الفنانة الفلسطينية المعاصرة رائدة سعادة عرضتْ لوحة لأمراة ترتدي عباءة من ورق الصحف العربية وعلى خلفية من صحف عربية ايضا، تبدو المرأة سجينة العباءة والخلفية التي ترمز إلى السياسة والإعلام المساند لها لكنها تنظر مباشرة بتحد الى الزائر، معلنة عن وجودها القوي. بينما عرضتْ الفنانة الايرانية شيرين نشأت أحد أعمالها من سلسلة (امراة الله) حيث تستخدم نفسها كموديل ترتدي شادور أبيض مزين بالحروف الفارسية على  
خلفية سوداء وتجلس مثنية الركبتين وبحالة تضرع لكن هناك بندقية تستريح بالقرب منها 


أحد مميزات المعرض أنه استعاد زمنا كانت به صور المسلمين والإسلام والشرق عموما تثير الخيال وتغري المشاهد للتمعن في تفاصيل ثقافة بعيدة مجهولة، لاتستفز ولاتثير هلع أحد، وهو محاولة ناجحة لإستعادة فن الاستشراق وتجريده من بعض دلالاته الخبيثة التي مهدت للإستعمار، وتنشيط ذاكرة الزوار لفن كان أبرز سماته الفضول المعرفي والاحترام والاهتمام بثقافة مغايرة.

 *عن صحيفة الرياض السعودية


























Monday, 27 April 2020

عن رواية (ساق الفرس) للروائي العراقي ضياء الجبيلي

 ساق الفرس والواقع المسكوت عنه 

تبدأ رواية ساق الفرس للروائي العراقي ضياء الجبيلي، والصادرة عن دار الفراشة لعام 2019، بحادثة انتحارغريبة، حدثت في العاشر من نوفمبر عام 2016 في لندن، انتحار فتاة عراقية تدعى عبير في التاسعة عشر من عمرها، كانت قد نجت من الموت مرارا في العراق، لكنها أنتحرت في لندن التي قدمتها لاجئة، رمتْ نفسها من الطابق الرابع في العمارة التي تعيش بها، على طريقة انتحار الممثلة سعاد حسني. تروي الأحداث أختها (سليمة)، التي تتلقى خبر انتحار شقيقتها أثناء تدوينها ملاحظات عن طقوس الندب والعزاء في العراق القديم كجزء من بحثها لنيل شهادة الماجستير، في مكتبة جامعة الدراسات الشرقية في لندن. يبدو الفصل الأول وعنوانه (لندن) بأقسامه الخمسة، مليئا بالمعلومات التاريخية، سواء ما يتعلق بالتراث الرافديني الذي تدرسه (سليمة) او الحقائق التاريخية القريبة لمنطقة وايت جابل اللندنية التي تعيش الأختان فيها، والتي اقترنت بجرائم غامضة حدثت نهاية القرن التاسع عشر وبقي القاتل مجهولا حتى اللحظة، وهو ما عرف بجاك السفاح. كذلك كان هذا الفصل مفتتحا لكثير من الإستذكارات والحقائق ترويها (سليمة). قد يبدو هذا الفصل مملا قليلا للقاريء الذي سيتسائل ما جدوى كل هذا السرد الهامشي، بقضية الانتحار التي هي عقدة الرواية ومحورها، لكن مجريات السرد في هذا الفصل ستجد ضالتها وصداها فيما سيأتي من احداث، ويبدو أن الروائي خطط جيدا للبدء برواية تشبه المواويل العراقية بإحتوائها على كمية مهولة من الحزن والمصائب. الرواية تجري على لسان سليمة بطريقة التداعي التي يمتزج بها الماضي والشكوك والإستطرادات والإنزياحات الأدبية، سليمة التي كانت امها تناديها ب(سْلَيْمَة) بتسكين السين، وهي مفردة بالدارجة العراقية ومعناها الموت او الكارثة الماحقة وقد وجدت سَليمة أصل المفردة في البابلية او الآرامية (سليموت) ومعناها شبح الموت. وبما إن لكل امريء من أسمه نصيب، فأن نصيب وهوية سليمة هو شبح الموت الذي سيظل يطاردها، فهي امرأة قد وجدت وطنا لها في مصائبها التي تبدو بلا نهاية، بينما كانت الغواية هي نصيب أختها عبير الذي رافقها منذ طفولتها، وقد وجدت الأخيرة ملاذها في الغواية. ينتهي الفصل الأول بمراسم هادئة لدفن عبير في أرض غريبة.


في الفصل الثاني، وعنوانه (البصرة) بأجزائه الخمس، نعود إلى حي عشوائي يعسكر قربه أحد ألوية الجيش العراقي على أطراف مدينة البصرة، أبان حرب إحتلال العراق 2003 . إتخذ الفقراء من أبنية لواء الجيش، مساكن عرفتْ بحي الحرية، بينما صارت مخلفات الجيش المدمرة من دبابات وأليات، ساحة لهو لأطفال الحي. سليمة البنت الكبرى التي أُجبرتْ على ترك دراستها الجامعية من قبل الأقارب بحجة (ماعدنا بنات تروح للجامعة)، وعبير الصغرى المصابة بإلتباس الهوية من جهة، فهي ترفض أنوثتها وتلعب مع صبيان الحي كصبي، ومن جهة أخرى وصلت الى سن البلوغ في عمر مبكر. وأمهما التي تشتغل عاملة تنظيف في أحد مستشفيات المدينة، بينما غيّب الموت الأب فجأة. تتعرض عبير إلى حادثة في أحد ليالي كانون الثاني من عام 2005، وهذه الحادثة ستصيبها بالخرس وستغيّر مصير النساء الثلاث إلى الأبد. صمتتْ عبير عقب الحادثة وكأن صمتها هو طريقتها في التعبير عن احتجاجها ضد ما تعرضت له، وصمتها هو سلاحها في ذات الوقت.  

تسرد سليمة الكثير من وقائع انتهاك الطفولة بالاغتصاب والقتل وسوء المعاملة، لكن محنة الإنتهاك تزيد من عاطفة الأخت الكبيرة تجاه شقيقتها وتصبح هذه المسؤولية معنى لحياة سليمة ودافع لمواجهة ما سيواجه الشقيقتان من محن لاحقة.
بطلة الرواية الفعلية ليست سليمة التي تجلس في شرفة شقتها اللندنية، وتستذكر حوادث آخر عشر سنوات من حياتها، بل هي الشقيقة الصغرى (عبير) البكماء، والتي عرفتْ كيف تغوي اولئك (اولئك مفردة جمعتْ بها سليمة كل القساة والمحتلين والطغاة والمنتهكين)، في سيناريو سادومازوشي، وعرفت كيف تسيّرهم حسب أهوائها، فهي تمسك (اولئك) في شباكها وتجعلهم يشعرون انهم يسيطرون عليها لأنها بكماء، في حين أن كل اولئك هم عبيد لغوايتها وصمتها.
تذكرنا سليمة في هذا الفصل بانتهاكات الطفولة التي حصلت بعد عام 2003، مثل اعتداء الجنود الأمريكان على الطفلة عبير قاسم الجنابي وقتلها مع عائلتها، وحوادث عديدة لأنتهاك الأطفال ثم قتلهم شهدتها المدن العراقية، وكذلك حالات القتل والإغتصاب بحق النساء التي شهدتها البصرة في اعوام( 2005-2008) ولاحقا إنتهاك اليزيديات وتعرضهن للبيع في سوق النخاسة. ينتهي هذا الفصل بلجوء سليمة وعبير إلى بريطانيا بعد أن عملتْ سليمة في القاعدة البريطانية في البصرة وتعرضها لمحاولة قتل واغتصاب ورميها بالقرب من مقبرة الانكليز في البصرة، وانقاذها من قبل أحد ضباط القاعدة البريطانية والذي سيكون له دور كبير في حياة الشقيقتين.
تجري احداث الفصل الثالث في لندن، بعد موت عبير، حيث تعتني سليمة بفرس انقذتها من الموت بعد أن كسرت ساقها في مضمار سباق. تُشبّه سليمة المرأة التي تتعرض للإعتداء بالفرس المكسورة الساق والتي لا ينفع معها أي علاج سوى القتل الرحيم، وكأن روح المرأة المنتهكة هي كساق الفرس، ستظل مشوهة ومنهوبة ولا ينفع معها علاج النسيان مهما طال الزمن.
يوظف الروائي الأمثال الشعبية العراقية بالسرد، على لسان سليمة التي تربتْ في بيئة شعبية، لكن الأهم انه قارب اسطورة عشتار وارشيكال في العلاقة بين عبير وسليمة في تراتبية الافعال والوقائع لكن بطريقة معاصرة. (عشتار/سليمة) تحب وتضحي وتحاول أن تصبح اما، بينما (أرشيكال/عبير) فتاة العتمة التي تغار وتغوي وتسرق بصمت ثم تموت مع اسرارها. نزول عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذ حبيبها تموز يكون مرادفا لهجرة سليمة إلى لندن ومحاولتها الفاشلة بإستعادة الخصب وانجاب طفل هجين من زوجها الإنكليزي.
حفلت الرواية بالكثير من التعقيدات السيكولوجية من خلال شخصياتها الرئيسية الثلاث الذين تشاركوا العيش في شقة في حي وايت جابل شرق لندن، عبير شخصية مُربكة للقريبين منها منذ طفولتها، ومرتبكة في ذات الوقت، وقد تحاشى الروائي أن تتكلم بصوتها لأنها لجأت إلى خيار الصمت المغوي. كذلك العلاقة المعقدة من حب وغيرة وتنافس بينها وبين اختها سليمة المصابة بالوسواس القهري، جعلها تغوي الرجال الذين يقتربون من سليمة. وايضا هناك العلاقة المتأرجحة بين الألفة والكراهية والاستغراب والإشمئزاز، بين سليمة التي لم تشف من صدمة ما بعد الاغتصاب ومارك الضابط الإنكليزي الذي أنقذ حياتها وتزوجها لاحقا. وقد أجاد الروائي في رسم شخصية مارك وسلوكه على امتداد زمن الروي، فمن حفيد لجندي بريطاني مدفون في مقبرة الانكليز في البصرة شارك في احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى، إلى ضابط في الجيش البريطاني في حرب 2003، تسببت دوريته في موت صبي عراقي بطريق الخطأ، ثم علاقته المعقدة بالاختين سليمة وعبير، فزواجه من سليمة الذي كان مجرد نزوة رجل تجاه امرأة سبق وإنتهكتْ، وهو نوع من الإعتراف بالذنب والتكفير عنه ورد الأعتبار إلى ضحايا الحرب غير المبررة من وجهة نظر مارك المتأخرة. ثم القاتل والمضطرب نفسيا الذي حاول الإنتحار برمي نفسه من جسر ويستمنستر.
في الفصل الرابع تعود سليمة الى البصرة بعد غياب عشرة اعوام للبحث عن أمها ومحاولة لإيجاد (اولئك) المنتهكين لها ولأختها. هذا الفصل اتخذ اسلوب اليوميات، فسليمة دونت تفاصيل رحلتها التي استغرقت اسبوعين، وبدأتها بزيارة لمنطقتها الشعبية، حيث أزيلتْ آليات الجيش الملوثة بالمواد المشعة مخلفة ورائها أطفال مشوهين ومرضى سرطان، وحلّ مكانها معمل لتصنيع الحبوب المخدرة تحت مسمى مصنع كريستال. لا سرد متخيل في هذه الرواية، فالشخصيات والأماكن والاحداث كلها حقيقية، حتى يخيل للقاريء انه يقرأ سيرة لحياة الشقيقتين. وكقراء يواجهنا الواقع برعبه الذي يتوالد في متوالية تبدو بلا نهاية، والذي لم تحاول هذه الرواية تزييفه، بل ان الروائي يسرده بصوت سليمة كنوع من ترويض الأحزان بالإفصاح عنه، لكن صوت الرواية الأنثى لم يخلو من نبرة ذكورية واضحة. لن تفلح سليمة في العثور على أجوبة لأسئلتها، لكنها تكتشف أن أمها اصبحت ضمن (اولئك).
رواية (ساق الفرس) هي السابعة في مسيرة الروائي ضياء الجبيلي، يعوزها الهوامش، فهناك الكثير الإحالات التاريخية والأدبية كان من الأجدر توضيحها بهوامش، وكذلك تلافي الأخطاء المطبعية الكثيرة.

عن صحيفة الشرق الأوسط

Tuesday, 21 April 2020

رسومات هتلر بتوقيع الثنائي الأخوين جابمان

نزعة تشويه الأعمال الفنية 

قد تكون الضربة القاضية للفن الذي نعرفه، فهذا المعرض يمثل المؤشر الأكيد لنهاية الفن التقليدي سواءً كان رسماً او نحتا. تماما مثلما نظّر له المستقبليون حينما نادوا بشطب تاريخ الفن وبتقويض وتهديم المتاحف في مسلخ ومذبحة عبثية ومقبرة لفراغ التجديد كما جاء في تصريحهم لعام 1909 .
جاك و دينيس جابمان فنانان بريطانيان تخرجا من الأكاديمية الملكية للفنون ، يموناننا بغرائبٍ إباحية متنافرة في معرضهما المشترك في كاليري المكعب الأبيض وسط لندن. العرض الذي احتوى على ثلاثة اجزاء متساوية في أهميتها وغرائبيتها. ويبدو ان الأخوين جابمان يرفضان النفيس والجميل لكل عمل أُنتجَ قبلهما لكي يمهدا عبر هذا الرفض طريقهما الفني الخاص والصادم ورؤيتهما المتفردة للإبداع.

الجزء الرئيسي من المعرض عبارة عن هلوسات متخيلة لجحيم الحروب  وخصوصا الحرب العالمية الثانية وجاء بعنوان ‘Fucking Hell’تجسدت هذه الهلوسات في تسعة أقفاص زجاجية متساوية الحجم مرتبة على شكل صليب معقوف . كل منها تمثل رؤية للهلاك والدمار والقنوط  يحملها الجنود النازيون ممثلين بمجسمات بلاستيكية مصغرة في مشاهد بائسة وتعيسة للغاية. هذه المشاهد تعيد تذكيرنا بفلم أعداء على الأبواب (enemy on the gates) الذي يصور معركة إحتلال مدينة ستالينغراد أثناء الحرب العالمية الثانية وخسارة أربعة ملايين إنسان في هذه المعركة . إنه سِفر لجرائم النازية والديكتاتوريات العالمية التي إشتركت في سعار منظم للعنف دمر وآباد كل شئ حتى المؤن . 

 الإلتباس في هذه المشاهد كونها مذهلة في قنوطها ويأسها، نسخ تفصيلية مسهبة للجحيم. ورغم إن الفنانين لم يشهدا الحروب والديكتاتوريات فأن تصويرهما لهذه المآسي البشرية هو قمة في الواقعية المفرطة الى درجة جعلتني أستحضر كل هذه الكوراث من جديد.

آلآلاف الأجساد الممزقة أوالمتفسخة تحتويها هذه الأقفاص التسعة، يتشارك الأحياء منهم والهياكل العظمية في حمل تعاسة ومهزلة الحروب البشرية. لكن روح الدعابة ليست غائبة عن جحيم هذه الاقفاص، هناك مثلا لحظة تعميد هتلر الطفل في كنيسة محترقة او هتلر البالغ وهو يستريح بجانب قبر عملاق. ان الدعابة والرعب يمنحان التأثير الرمادي المميت لهذه الأقفاص الزجاجية الرهيبة.هناك مثلا مجسما لطفل ذي ثلاثة رؤوس يلعب الكرة على  ضفة ساحل بحيرة من دماء حمراء او جندي يمصّ الحليب من أثداء خنزيرة في مصفحة عسكرية. ولوكان المستقبليون صادقين بإدعاءاتهم ان الفن هو العنف والقسوة واللاعدالة فان الأخوين جابمان أظهرا قدوة وقدرة مذهلة ومدهشة لهذا الإدعاء.



الجزء الثالث من المعرض هو عبارة عن رسوم هتلر المائية التي رسمها خلال اقامته في مدينة فيينا بين الأعوام (1908-1913) والتي اشتراها الفنانان بمبلغ 115,000 باون استرليني رغم كل الانتقادات التي وُجِهتْ إليهما حول القيمة المعنوية لدفع مبلغ كبير لأعمال فنية بريشة أقسى دكتاتور في العالم. عرض جاك ودينس ثلاثة عشر عملا من هذه الرسوم المائية الهتلرية لكن بعد ان أضافا بصمتهما الشخصية لهذه الأعمال. أقواس قزح غافية ، نجوم براقة ،وجوه ضاحكة وفيضان منثال من القلوب أُضيفتْ الى خلفيات أعمال هتلر وعُرِضَت مجدداً في سوق الفن بمبلغ 685,000 باون إسترليني. 
الاخوان جابمان نفيا أن تكون هذه الرسوم والتي عرضت للبيع كقطع منفردة، هدفها إستعادة هتلر، وقد سبق لهما ان وصفا لوحات هتلر ب(العمياء) وناقصة للإبداع. ان فكرة إستعادة هتلر او أفكاره العنصرية هي سيئة جداً لكن فكرة إستعادة أعمال هتلر الفنية هي فكرة عبقرية (يقول جاك). ويصف هذه اللوحات :"انها لاتمت بأدنى صلة لهتلر الان بل هي نتاج أفكارنا، إن التهشيم والإفساد من الممكن أن يكون فعلا إبداعيا ايضا."
دينيس جابمان قال ان هذا العرض والمعنون (لو كان هتلر هيبي كم كنا سنكون سعداء),هو في الحقيقة إجترار لسؤال ماذا كان سيحدث لو لم ترفض أكايمية فيينا للفن هتلر الفنان الشاب. ويضيف لقد أظهروا عدم اكتراث لأعماله  مما جعله ممتلئا بالمرارة والإحباط والكره.
حاول هتلر دراسة الفن في هذه الأكاديمية وعرض لوحاته على لجنة القبول مرتين  بين عامي 1907 و1908 ورُفض قبوله كطالب فن بالمرتين. لكن هذه الرسومات كانت عادية تماما ولا تشي بأن الذي رسمها سوف يصبح  دكتاتورا ومرتكبا للجرائم بحق البشرية .

هذه اللوحات تمثل قشرة الرجل فقط وهي تشبه آلاف الاعمال الرخيصة التي تمتلئ بها الاسواق. 
وكل الذي يمكنننا قوله انها أعمال فنية فظة وفظيعة وتفتقر إلى أدنى مراتب الابداع.
 عنوان المعرضif Hitler had been a Hippy how happy would we be! )) لايحمل علامة استفهام ، لكنه يُسقط الأسئلة المنغصة في رؤوسنا.
-هل الروح البشرية تواقة الى الهلع؟
-هل من الممكن ان نتأمل العالم بدون الخوف؟
-وحتى لو تلاشى الخوف، هل من الممكن كما يقول الاخوان جابمان أن نعيد تخيله فنياً؟؟
هذه ليست المرة الاولى التي يشوه الاخوان جابمان الأعمال الفنية فقد سبق لهما أن اضافا لمساتهما الخاصة من وجوه مضحكة ورؤوس مهرجين لتخطيطات الفنان الاسباني فرانشيسكو غويا المعنونة (كوراث الحروب)مما أثار النقاد الاسبان ضدهما.
وعندما يحين الوقت الذي سيعصف بكل المتاحف ويُمحى تاريخ الفن للتجديد في الفراغ ، فان جاك ودينس جابمان سيكونان في اول الطابور بلا شك .