Sunday, 29 June 2014

الشاعر البريطاني فليب كروس



مائدة الماء أفضل مجموعة شعرية بريطانية لعام 2009


في ظهيرة ممطرة عام 1965، كان المراهق اللاجئ فليب كروس ذو الثلاثة عشر عاماً في مكتبة مدرسته في مدينة بليموث، يتصفح كتاب للشعر بعنوان (الارض الغربية) للشاعر إليوت. الولد الذي كان ضجراً وسارح الذهن، وقف شعر راسه دهشةً، حين فتح ذلك الكتاب رغم انه لم يستوعب كلمة مما قرأ، لكنه أحس ان الشعر مذهل وأن الفهم سيأتي لاحقاً. كوّن هذا الولد فيما بعد فريقاً موسيقياً مدرسياً باسم (ويست لاند) مستلهماً قصيدة اليوت. يستعيد فليب كروس، الروائي والكاتب المسرحي والشاعر الذي أصدر عدة مجاميع شعرية، هذه الذكرى بعد فوزه بجائزة باسم ملهمه الاول شعرياً. يقول في حفل الاعلان بعد فوزه بجائزة (ت. س. اليوت) الشعرية البريطانية المرموقة والتي تبلغ قيمتها 15000 باون استرليني، عن مجموعته الشعرية (مائدة الماء) الصادرة عن (بلوداكس بوكس 2009)، هناك نوعاً من العدالة لفوزه  بهذه الجائزة لانه إبتدأ مشواره الشعري من هذا الاسم تحديداً، وان كتابة الشعر مسؤولية كبرى ومصيرية وعلى الشاعر ان لا يقدم تبريراً او إعتذاراً عن اشعاره كما لو انه يمارس عملا هامشياً وغير اخلاقي.  
المجموعة تتكون من 64 صفحة، وهي تأمل لغوي طويل في أقنية مدينة برستول المائية المتغيرة بإستمرار، هذه المجموعة تنافست على الجائزة مع مجموعة (بعثرة) للشاعر المعروف كريستوفر ريد الفائز بجائزة كوستا الشعرية، مع ثلاثة فائزين سابقين للجائزة ذاتها، وسميت (مائدة الماء) كافضل مجموعة شعرية صدرت في بريطانيا لعام 2009. استلم الشاعر فيلب كروس مبلغ الجائزة النقدي من قبل ارملة اليوت (فالري) في كالري والس في لندن.
 الجائزة تسلط ضوءاً مشعاً على الفائز بها، من قبل القراء أو النقاد، وفليب كروس المنحدر من عائلة أستونية لجئت الى بريطانيا بعد الحرب الثانية والمترعرع في مدينة بليموث على الساحل الجنوبي للممكلة المتحدة، مثله كمثل تيد هيوز وسيمونز هيني وكارول آن دوفي وكلهم فازوا بهذه الجائزة من قبل.
 شارك فليب كروس أستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة كلاموركان في جنوب ويلز، بعدة قراءات شعرية  بعد فوزه بهذه الجائزة التي منحته ايمانا مضاعفا بمجموعته التي تتمحور حول ثيمة بسيطة وهي الطبيعة المتغيرة للمياه لكنه يضيف ان العالم سواء كان الطبيعي او المصنوع من قبل الانسان، قد يُعكس بمرآته المائية هذه.(مائدة الماء) كما تصفها لجنة التحكيم، نصوص شعرية على درجة عالية من النضج اللغوي والشفافية، تستلهم الحلم في بعض فصولها لكنها تتعامل في نهاية المطاف مع السؤال الجوهري للوجود الانساني على سطح هذا الكوكب. وهي حصيلة تأمل طويل، للشاعر بخطوات خفية لحركة المياه المتغيرة والمعالم المستحدثة من قبل الانسان، التي تحيط بالمياه.  

 قصيدة مثل (في ثنايا الارض) تحاور إمكانية رؤية المياه بعدة اوجه وحالات:
يمكنه للابد
 الإضطجاع على غرينه،  يحاول دائماً
 ان يكون شئ آخر، أن يصير سماء
 أن يضيّع ذاته في الانعكاس المطلق. 

يقول كروس :" ان الاحساس بالماء لاشئ في حد ذاته، وبما ان طبيعة المياه الشفافة، عاكسة لكل شئ بطريقة تمكنك من رؤية العالم المعكوس في زوايا المياه الجارية. لو تنظر الى مصب نهر سيرفن وهو أطول نهر في المملكة المتحدة ستراه بلونين، أزرق وبنيّ في ذات الوقت لانه ببساطة يعكس الارض والسماء، المياه من اكثر الاشياء خداعاً حين ننظر اليها، ماهرة فقط في سحب الاجسام الى الأسفل بفعل الجاذبية وخلال عملية السحب، سوف تكوّن أنماطاً حركية لانهائية بالغة الدقة والتعقيد. ويبدو ان الشاعر فليب كروس مهووس بالمياه التي جاورها طوال حياته، كصبي ريفي ترعرع في شمال مقاطعة كورنول، ثم عاش شطرا من حياته في الجانب الغربي لقناة مدينة برستول، واخيراً في كاردف عاصمة مقاطعة ويلزالشهيرة بخلجانها وأقنيتها المائية. يصف فليب كروس الخليج الذي يفصل مقاطعة ويلز عن انكلترا: " بجسم مفتول العضلات  يحمل المد والجزر الهائلين. انها كتلة ضخمة من المياه تخترق كل شئ حولها". القصائد تستعرض ايضا العالم الذي طرزه الانسان بطبيعته والوقائع التي إبتدعها على الارض وجعلها في صفه لخدمته اولاً وأخيراً.
قصيدة (فانتازيا) تستوحى ثيمتها من محلات الاثاث العالمية (اكيا) وكيفية التفنن في الاعلان لجذب المستهلكين لدرجة تجعلهم:

" يتعثرون بدهشتهم
 لكي يروا، في النهاية،
 انها مجرد سقيفة".  
وتستمر القصيدة:
" خذ مربع
 صندوق،
متجعد مثلما بفعل رافعة،
 ومطليّ بالازرق والاصفر
 والبنيّ من أحد جوانبه،
 إطلق عليه إسماً ما
 وسيغدو عالماً. 

وهناك تلميحات غير مباشرة للبيئة البكر في عدد من القصائد كأنها تحفيز لأن يكون الكاتب والشاعر واعياً
 ومنتبهاً للمتغيرات المحيطة، كروس ياخذنا بمهارة باتجاه فيضان عظيم لاستدعاء مخاوفنا كبشر للمحافظة على كوكينا المائي، القصيدة من وجهة نظره، إهتمام استثنائي بتفاصيل العالم الذي يحيطنا.
الصمت وحدوده شكلا أيضاً جانباً مهماً في (مائدة الماء)، والصمت صفة يعزوها الشاعر جزئياً الى تأثير أبيه الإستوني عليه، ويقول انه اتقن في طفولته لغتين: الإنكليزية والصمت. "كنت أحدس كطفل ان هناك شيئاً ما لا يقال امامي، فأبي خرج  من سنوات الحرب في بلده وكأنه يريد أن يتجاوز أزمته دون كلام، ولهذا انا مهتم جداً بالشعر الذي يستلهم الكلمات والصمت معاً لكني اريد ان اخلق رنيناً مسموعاً لهذا الصمت".   
أخيراً، مجموعة (مائدة الماء) هيئة كثيفة وملتبسة من المياه تمدد في صميم  قصائد على درجة عالية من الشفافية والتركيز، ثيمتها الاساسية في إستمرارية صورها الشعرية الحية، سواءاً اللغوية أو الموضوعاتية.






حنوش "يغزل خيوط النور" في لندن



أفتتحتْ مؤسسة القطان التي تتأخذ من لندن مقراً لها والتي تعنى بالنشاطات الثقافية في الشرق الأوسط والعالم العربي، موسمها الثقافي للعام 2014 بمعرض للفنان العراقي المغترب في اسبانيا حنوش حنوش . العنوان الرئيسي للمعرض (خيوط النور) مستوحى من قصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي (خيط النور) التي تستهلم الشاعر الإسباني لوركا كمثل لكل الرافضين والمحتجين على الظلم .

رأيته يصارع الثيران في مدريد
يغزو قلوب الغيد
يضحك من أعماقه ، منتظراً ، وحيد
بوابة الابد
مغلقة ، ليس هنا احد
يضحك من اعماقه ، الجسد
يلسعه ثعبان
رأيته يصارع الثيران
مضرجاً بدمه ، يصرعه قرنان

يقول الفنان حنوش إنه تأثر بقصائد عبد الوهاب البياتي لأسباب عديدة منها إن قصائد البياتي حركية وتوحي أحياناً باللون، ولأن البياتي منفتح على الحضارة الغربية ومستلهم لرموزها العالمية كما إن نظرته للتاريخ العربي عميقة ومنفتحة، لذلك فهو (الفنان حنوش) يحاول مزج الصور الشعرية لقصائد البياتي مع رؤاه الذاتية وألوانه وذكرياته الشخصية في محاولة لخلق يوتوبيا خاصة به داخل فضاء اللوحة .  
وقد تكون مقولة ارسطو التي أفتُتح بها المطبوع الأنيق المرافق للمعرض "الغرض من الفن هو تجسيد الجوهر السري للأشياء وليس إستنساخ اشكالها" هي لبّ هذا المعرض وجوهره.
نعم ففي كل لوحة من لوحات المعرض التي تتباين في الحجوم هناك عالم متكامل من الرؤى والألوان والأشكال الهندسية والهيئات البشرية الغائبة الملامح، شخوص وأنصاف شخوص، سيقان أنثوية لا تخلو لوحة منها، حيوانات منزلية، مأكولات وآلات موسيقية وموضوعات الحياة اليومية الأخرى من كؤوس وكتب وقناني الشرب وأدوات المائدة، كأن الفنان يلتذُ بتجميع هذه الأجزاء التي يبدو بعضها متنافراً ليحقق من خلال هذا التجميع إتحاده مع ذاته.

اللوحة عند حنوش تشظي ذاتها الى لوحات متداخلة مع بعض، هذا واضح جداً من الكتل والمربعات الهندسية اللونية التي تتوزع مساحة اللوحة الواحدة، كل مربع من هذه المربعات يحمل ثيمته الخاصة وألوانه وخطوطه وميزته السردية لكنه يتآلف ويتداخل مع مربعات اللوحة اللونية الاخرى ليشكل بنية فنية يبتغيها مبدعها أقرب الى الإكتمال، لأنه يعتبر الجمال فكرة موحدة ومتكاملة بشكل منسجم تتفوق على الطبيعة والمادة من خلال عمل الفنان.
سطح اللوحة وما يحتويه من مربعات وكتل لونية وأشكال متشظية عنه بداخله،  تثير الملتقي  لنظرة متفحصة طويلة ثم ثانية وثالثة والى ما يشاء. كم من الأفكار تتولد في المساحة الصغيرة، امام اللوحة ربما يقف المشاهد يحاجج العمل الفني ولا يمضي قبل أن يكون قد تبادل الأخذ والعطاء من الأفكار في هذه المحاججة. 
شخوص لوحاته غالباً بلا ملامح فهو يُغَيبْ ملامح الانسان الكلاسكية لصالح قراءات وإنثيلات فكرية جمالية ذات بعد حركي تعتمد إسلوب تداعي الأفكار وإعادة صياغة الواقع باستخدام ذكرياته الشخصية ومشاهداته ونظرته الفلسفية للفن والمكان والانسان.

يؤكد حنوش إنه يهتم أساساً باللون والخط لكن تجسيد الهيئات البشرية والتفاصيل اليومية وحتى حركات الإنسان غير الشعورية يطغي على لوحاته، لينفذ  هو من خلال هذه الإعتيادات الى رؤى صوفية وإنسانية شاملة يختلط فيها الزمن الماضي والحاضر.
لوحاته ذات الكتل اللونية الحركية تثير المشاهد ذهنياً وتجعله يفكر في مدى ترابط أجزاء هذه اللوحة مع بعضها، أحد زوار العرض رجل إنكليزي مهتم بالمسرح وقف أمام لوحة كبيرة متأملاً زمناً لا بأس به وحين سألته عن رأيه بهذه اللوحة تحديداً قال لي انه رأى فيها الشاعر البرتغالي بيسوا لأن الشكل الاساسي المهيمن والمغيب الملامح الذي يحتل مركز اللوحة يرتدي قبعة كقبعة بيسوا بينما هناك في الزواية اليمنى يقبع إثنان من ذواته او أسماءه المستعارة كأنهما يراقبان الشخصية المركزية .
ولد الفنان حنوش في مدينة الكوفة بالعراق. ودرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد للفترة بين 1974 الى 1979 ثم هاجر الى إسبانيا وحصل على الماجستير والدكتوراه في الفنون الجميلة من جامعة كومبلتنسه في مدريد ولا زال يعيش ويتفرغ منذ ذلك الحين للعمل الفني والأكاديمي.
ورغم إبتعاده عن العراق لأكثر من ثلاثة عقود إلا إن البيئة العراقية الأصيلة حاضرة بكل تفاصيلها وبتكرار جميل في كل لوحة، هناك لوحة متوسطة الحجم تصور رجلاً مطرقاً تقف فوق رأسه حمامة بيضاء، يرتدي العقال والزي الشعبي العراقي لمنطقة الفرات الأوسط يضع الرجل يده على لحيته ويقف قبالة عازف للناي يرتدي الزي المدني كأننا لو إنتظرنا برهة أخرى سنسمع ما يدور بين هذين الرجلين، الرجل المسن ذو اللحية سوف يقدم نصحية مجانية او مثلاً شعبياً دارجاً  للموسيقي الذي يقف قبلاته.

لا تخلو لوحة من لوحات معرض (خيوط النور) من خاتونات بغداد المسترخيات بتلك الجلسة المميزة حيث تثني ساقاً على ساق، وتنتعل السيقان الممتلئة ذلك النعل المميز لربات البيوت البغداديات وهن يؤدين أعمالهن المنزلية.
اللوحات بلا أسماء، كأن الفنان أراد أن تكون لوحاته سلسة لها ثيمات متقاربة غالباً، أدهشني حضور حيوان الماعز في أكثر من لوحة  وحين سألتُ الفنان حنوش عن سبب ذلك سرد لي قصة أول فقدان في حياته، فحين كان صبياً بعمر السادسة بدأ بتربية ماعز صغير لكنه فقده حين جاء العيد وذبحت العائلة ذلك الماعز لطرواة لحمه.
تتعايش في لوحات حنوش القدرة على المزج ما بين التجريد والتشخيص الواقعي. إذ نلاحظ في الهيئات المرسومة عملية توزيع منتخبة، وكأننا أزاء تشظية مقصودة فوق إطار مكاني، يشبه عملية ترتيب قطع متناثرة لإتمام تواجدها، كما لو أن الفنان يعمد الى تهشيم الواقع ومن ثم إعادة صياغته على قماشة اللوحة، هو يمزج المنفى والوطن ليعيد تشكيل يوتبياه الخاصة بخلط حاضره وذكريات طفولته ويقدم في عمله الفني محصلة تمارينه الفنية والمعرفية .


حنوش المولود في مدينة الكوفة عام 1958، يعد واحداً من أهم الفنانين الأجانب في إسبانيا، وحاز إسماً وشهرة ركزتْ عليه إنتباه وإهتمام النقد والنقاد وكُتبَ عن فنه الدراسات المختلفة. أقام ما يقارب الثلاثين معرضاً فردياً وجماعياً إبتدأها منذ عام 1985. حازت أغلب أعماله على جوائز مهمة داخل وخارج إسبانيا٠ أبرزها جائزه فورد اسبانيا في عام 86 وجائزه بينال بورتيانا في عام 91 واخر جائزه عام 2011 وهي جائزه بيرخن دو لاس بينياس. عُرضتْ أعماله في متاحف وصالات عرض عالمية وشاركت في مهرجانات دولية عديدة.

Friday, 27 June 2014

آخر ثلاث سنوات من عمر جون كيتس




الفلم السينمائي كقصيدة، برايت ستار نموذجاً



(هنةُ من جمال هي فرح أبدي)، بهذا المقطع من قصيدة جون كيتس الشهيرة (إندميون) يبدأ فلم برايت ستار لمخرجته وكاتبة السيناريو (جين كامبون)، حيث تصف بطلة الفلم (فاني براون) شطر القصيدة السابق بالبديع لكنها تردف بعدها "القصيدة ليست جميلة كبدايتها"، بتفاعل ملحوظ، تتيح لنا المخرجة تخمين وإستيعاب هذه العبارة التي لاتنتقد قصيدة كيتس بل تلمح  لحياته. 
   
علاقة الحب العاصفة التي جمعت الشاعرالبريطاني جون كيتس ( بن ويشو) في آخر ثلاث سنوات من حياته، وحبيبته فاني بروان (آبي كورنش)، هي محور هذا الفلم الذي يبدأ بالشعر وينتهي به. تمكنت المخرجة، التي إعتمدت أحداث الفلم من كتاب الشاعر اندرو موشن (شاعر البلاط الملكي السابق) عن سيرة جون كيتس والمنشور عام 1997، من أدوات عملها، بدءاً بمكان التصوير، الى اختيار الممثلين، واستطاعت ان تنجز فلم باهر ومميز بدون ميزانية ضخمة، ذا لغة سينمائية رائقة وبليغة تبتعد عن الأنا الغنائية المبهرجة، وفيه قدر كبير من التحد، لانه يسرد قصة حب بطريقة غير عصرية، وإتقنت المخرجة، إستحضار كل رومانسية القرن التاسع عشر بين كيتس وفاني بروان، وإستعرضت بحساسية بالغة مسارات غرام الحبيبين وشغفهما، رغم ان الفلم لم يحتو سوى قبلة وحيدة للحبيبين. 




 إلتقى جون كيتس ذو الثلاثة وعشرون ربيعاً بحبيبته فاني بروان في العام 1818، وكان كأنه عصا رقيقة، الشعر شغفه الاول رغم ان أشعاره لم تلاق النجاح، و لم تاخذ حقها بعد. البطلان يلقيان الشعر كما يعيشان الحياة، وهنا تكمن صعوبة إداء هكذا نوع من الافلام لكثير من الممثلين، كما لو انهم  يواجهون تحدي من يمشي على يديه، لأن الإنكليزية المحكية تختلف كثيرا عن الإنكليزية التي كتب بها كيتس اشعاره، مما قد يثير سخرية المشاهد اذا لم يتقن الممثل دوره جيدا. إمتلئ السيناريو وطريقة الاخراج، بفضاءات ولحظات سكوت تمنحنا كمشاهدين إمكانية الاستماع لهمس الصمت، بين وقفات الحوار الذي يدور على ألسنة البطلين، وزقزقة الطيور، وحفيف الملابس حين تركض البطلة وأخواها في الحقل، او حتى وقع سير الاقدام في الحدائق وأمام المنزل الذي تدور به غالبية الاحداث، لحظات السكون هذه، منحتنا كمشاهدين أيضاً، وقت للتنهدات والتفكير، وقدرة على التنقل في أجواء الفلم النفسية ومناظره الطبيعية الساحرة بحرية نفتقدها في معظم الاعمال التارخية والتي تتناول السيرالادبية. لقد إستثمرت المخرجة ميزتا الهدوء والصفاء بوتيرة متساوية وسكون بليغ لاستكمال عوامل نجاح فلمها، ومن مميزات الإخراج أيضاً، قدرتها على جعل المشاهد قادراً على الكشف الكامل لكل مشهد بلا مواربة، كما في مشهد البطلة وهي تقرأ رسالة بصمت في إطار النافذة بطريقة لاتسمح بمزيد من التفسير او الحوار، أيضاً في مشهد الغزل بين الحبيبين اثناء اللعب بالكرة، وحتى في مشهد اعلان نبأ وفاة كيتس في نهاية الفلم. إستطاع الممثلون من ناحية اخرى، تحميل اللحظات السردية والحوارية عبء كبير من الحوار الصامت، يتوازى مع  هدير التسارع الموسيقي المصاحب. 


 تدور اغلب مشاهد الفلم في الأمكنة المفتوحة والحقول، في منطقة (هامبستيد) شمال لندن تحديدا، حيث أفْتتحَ مؤخرا بيت ومتحف الشاعر، ومن المفارقة اني شاهدت هذا الفلم في سينما تقع في ذات المنطقة. وتنقلنا كاميرا المخرجة، في احيان أقل، الى مشاهد بؤس وفقر في أسواق منطقة (كندش) المكتظة، مع إنتقال فجائي أخير الى ساحة مهجورة من ساحات روما في المشهد الجنائزي الصامت للشاعر.  



وبالعودة الى البطلين فان (آبي كورنش) أجادت إدائها  لشخصية فاني بروان، المرأة الشابة الرقيقة المفتونة بجارها جون كيتس لكنها حريصة من جانب اخر، على تطوير مهاراتها بالخياطة والحياكة، وكانت بحق مركز الفلم وقلبه النابض، تجنبت الصبيانية ودلع الفتيات والاداء المبالغ به


 اما كيتس لعبه الممثل البريطاني (بن ويشو)، الذي له هيئة الراقص وهيبة الشاعر المتأمل والمنعزل، وكأنه كائن أسطوري شاحب لا يمسّ الأرض إلا بأطراف حوافره، نظراته الطويلة والمندهشة تمتص كل شئ مثل نظرات طفل، وماذا نتوقع منه فهو من أجاد لعب دور البطولة في (فلم العطر/ قصة قاتل) الشهير وايضا لعب دور بوب ديلان في فلم (آيام نوت ذير)2007، في هذا الفلم يتحرك ويتعامل بشاعرية باهرة، يُلقي ويعيش قصائد كيتس وحتى في مشاهد الفلم الاخيرة حينما يصاب بمرض السل الرئوي الذي سيؤدي الى وفاته فهو لايستجدِ التعاطف من المشاهدين.


 لعب دور صديق كيتس ومرافقه الفظ الممثل الامريكي (بول شنايدر) بإجادة بيّنة للهجة الاسكتلندية، ظهور هذا الرفيق منذ البداية، ينذرنا بان هناك مثلث للحب في الاحداث، الصديق المشاكس والغاضب الذي يدخن السيجار، يحب صديقه كما تحبه فاني، لكنه يستميت في دفاعه عن عزوبيتهما وتسكعهما وانغماسهما معا في الأدب والشعر، يخشى على صديقه جون كيتس من الارتباط العاطفي أو الزواج الذي قد يرهق الشاعر بمزيد من الديون ويقضي على موهبته. وفي الثلث الأول من الفلم يرسل الصديق بطاقة عيد الحب الى فاني حبيبة كيتس في محاولة باهتة لإغوائها، كأنها محاكاة لتصرفات صديقه القديس الضئيل، او مناورة منه للتخلص من وحدته القابعة بعيدا فيه.
لوهلة يبدو ان (فاني بروان) تقتحم عالم الشاعر ونتيجة لهذا الاقتحام: نشوة القبلة الوحيدة في الفلم، مشهد للضياع الميتافيزيقي على حافة نهر هادئ، وتبدأ الخيّاطة )فاني) بقراءة الشعر وتذوقه بمساعدة جارها وحبيبها وبهذه الطريقة سوف تكون قريبة من تلك الشرارة المقدسة التي تشع من الشاعر النحيل، لكن كيف ستتمكن من الزواج من الحبيب المعوز مادياً والمتزوج من أشعاره والمريض والمُرافق بصديق غيور؟  ويمر شتاءٌ أنكليزيٌ آخر تتدهور فيه صحة الشاعر، ويتفق اصدقاءه على شراء تذكره سفر له ليقضي الشتاء في ايطاليا، لعلها اكثر ملائمة لصحته العليلة. وليس من امل لتجنب الحزن الرهيب الذي غطى الفلم برمته مثل كفن، لكن حتى في لحظات الاسى هناك غبطة خفية لنشوة الفقد.  

  
في الوقت الذي تزدحم به دور العرض السينمائي بافلام الاكشن والخيال العلمي والتقنيات الحديثة، يسرد فلم برايت ستار معاناة كائنين غابرين، يتصلان لاشعوريًا عبر الجدران في احد المشاهد، ويبتكران مساحتهما الخاصة الغنية بالإيماءات والحنان الغض، هذه المساحة التي ركزّت عليها المخرجة تحديدا، فهناك مشاهد قليلة  تصور كيتس وهو يكتب او يلقي قصائده. مصور الفلم(كريغ فريزر) برع في تصوير المشاهد الشاحبة والقريبة من البياض التي تتطابق مع دوار الحبور والسعادة الناصعة، مثلاً في مشهد تطريز (فاني) وسادة الحرير لحبيبها، أو مشهد الكسل السوريالي الباذخ حين تستلقي (فاني) واختها في غرفة تطير فيها الفراشات بحرية في واحد من اجمل مشاهد الفلم، كما ان الممثلين الواعدين الذان أديا دور اخويّ فاني، كانا مبعث بهجة لاحداث الفلم، مصممة الازياء (جانيت باترسون) برعت في إستعادة أزياء والوان وأقمشة تلك الفترة، والحصيلة المفرحة، رغم النهاية الماساوية والمعروفة، لكننا شاهدنا قصة حب جديدة في هذا الفلم لم نعرفها 
من قبل. ترشح فلم برايت ستار لجائزة الاوسكار لسنة 2010 وجائزة البافتا لسنة2010 ايضا. 





حب بعد آخر  
ديريك والكوت*



 سيأتي قريبا وقت بهيج
ستلقي التحية فيه على نفسك
حين تعود،
نفسك التي تقف على الباب.
يبتسم كلا منكما للاخر
مرحباً في المرآة
وتقول لها "تفضلي، اجلسي هنا ، كلي."
ولسوف تحب من جديد الغريب الذي كنته.
وتشاركه الخبز والنبيذ وتمنحه قلبك ثانية
لنفسك، للغريب الذي أحبك طوال حياتك.
 الذي يعرفك عن ظهر قلب.
وأنكرته لأجل آخر
ستنزل له رسائل الحب من الرف،
الصور ، الملاحظات السريعة.
ومن المرآة قشرْ صورتك.
إجلس.
 وتناول مأدبة حياتك.



* شاعر كاريبي حصل على جائزة نوبل للادب عام 1992 وجائزة ت. س. اليوت 2011


رامبو وفرلين في لندن



رامبو وفرلين في( بيت السكاكين) من جديد


عام 1872 قدم شاعران فرنسيان الى لندن، الأول في السابعة عشر من عمره والثاني في الثامنة والعشرين، عاشا معا واحدة من أشهر قصص الحب في تاريخ الأدب الحديث، سكنا منزل رقم 8 في (رويال كولج ستريت/Royal College Street) في ضاحية كامدن. ينزفان الشعر ويدمنان الابسنث (نوع من الكحول) يتحابان ويتشاجران بشكلٍ إنفجاري ومستمرٍ في مشروع ثنائي لتجاوز أزمة الوجود بالشعر والصداقة، وربما كتبا في هذه الفترة بعضاً من أهم القصائد في الشعر الفرنسي الحديث


آرتور رامبو ربما كتب في لندن "إشراقاته" و"فصل في الجحيم" قبل أن يهجر الشعر مختارًا ويقضي بقية حياته مستكشفاً في اليمن أفريقيا وتاجراً للقطن والأسلحة والعبيد، بينما كتب بول فيرلين قصيدته "شوارع" عن شارع بادنكتون في لندن وأعيد الأعتبار له بعد فترات الادمان والسجن وأُنتخبَ أميراً لشعراء فرنسا عام 1894 وقضى ما تبقي من حياته في باريس.
أقامت مؤسسة (شاعر في المدينة/ Poet in the City) أُمسية إستذكارية لرامبو وفرلين في(Kings Place) ، عُرض في  الأمسية فلم (بيت السكاكين/  House of Knives) الذي يروي قصة هروب الشاعرين الى لندن والبيت الذي إستأجراه وفقرهما ومشاجراتهما الدموية. هناك مشهداً درامياً يلخص أزمتهما الثنائية والداخلية، فيرلين قادما من السوق يحمل سمكة طازجة لكن رامبو  يفتح نافذة البيت ويشتمه على مرأى من الناس ويهينه ويتهمه بالكسل مما جعل فيرلين يصفعه (بالسمكة) ويعود وحيداً الى باريس.
بدأت الأمسية بنبذة تعريفية عن مؤسسة (شاعر في المدينة ) الخيرية ثم قراءة مقاطع من قصيدة (المركب السكران) لرامبو في أصلها الفرنسي ومترجمة الى اللغة الإنكليزية قدمها بطل الفلم (جاك جونز) الذي جسد شخصية رامبو: 
"لم أعد مهتماً بالملاحين على متني
وأنا أنقلُ قمحاً فلامندياً أو قطناً إنكليزياً
عندما إنتهى ذلك الشغب وغاب العمال عن ناظريّ 
تركتني السيول أهوي حيث أشاءُ"
قُرأتْ بعدها بالفرنسية ثم تلتها بالأنجليزية قصيدة بول فيرلين (إنها تمطر في قلبي) التي  قد يكون كتبها أثناء وجوده في لندن، ألقاها الممثل(سام سواينبري) الذي أدى شخصية فيرلين في فلم (بيت السكاكين/house of knives). 
" إنها تمطر في قلبي
مثلما ينهمر المطر على المدينة
ما هذا الوهن المعتم
الذي يثقل قلبي؟

يالصوت المطر العذب
على الارض وفوق السقوف !
ولأجل القلب المثقل بالكدر
إنهمري يا أغنية المطر "
أعقب ذلك كملة مختصرة عن ظروف إنتاج الفلم الذي كلف ميزاينة متواضعة وصعوبة إستعادة رامبو وفيرلين في لندن المعاصرة،  لمخرج الفلم والمدير التنفيذي لمؤسسة شاعر في المدينة (كراهام هندرسون) وكذلك الخطة التي تهدف لتحويل هذا المنزل البسيط الى مؤسسة رامبو وفيرلين الثقافية  والتي تعنى بتنشيط التبادل الثقافي والترجمة الأدبية بين لندن وباريس وسوف تضم مكتبة ومتحفاً وصالة لإقامة الأماسي الشعرية وشاشة لعرض الافلام وكافتيريا. 
عُرضَ الفلم بعد ذلك لنكتشف إنه  ضم ثلاثة أبطال هم رامبو وفيرلين والراوية التي أدت دورها بجدارة الممثلة (لوسي تريكير)، هذه الراوية التي ترجمت إنفعالات الشاعرين بمقاطع من قصائدهما كأنها كانت تتبع آثار اقدامهما ونزواتهما وتلعق حتى الدماء التي سالت أثناء المشاجرات.
قدم بعد ذلك الشاعر والناقد (ديفيد هارسنت/ David Harsent ) كلمة موجزة عن رامبو وإستعاد رسائله ( رسائل الرائي) الى إستاذه (ايزامبار) في شارلفيل وافكاره عن "الحرية الحرة" التي تتجسد في الشعر وكيف يجب أن يُكتبْ الشعر وكيف سيغير العالم وكيف سيذهب هو الى آخر مدى ممكن حتى التشويش الكامل لكافة حواسه لخلق قصائد الحرية الحرة ، الحرية التي حلم بها رامبو من خلال قصائده  وحين لم يعثر عليها بالشعر هجره كليا، "هذا الفتى ذو الستة عشر عاما يعلم باريس كيفية كتابة الشعر بثقة وجرأة وصلافة!"
بينما بول فيرلين لم يكن يبغي تغيير العالم بالشعر بل كان يعبّر عن ذاته الوديعة السوداوية التي تعشق الأصوات والرموز أكثر من الالوان، ذاته الملتبسة الضائعة بين حبه لزوجته وعشقه لرامبو المتمرد على أنظمة المجتمع كله ، لذلك إنتهى به الأمر الى إدمان الكحول في مقاهي باريس بعد أن مات تلميذه وعشيقه الثاني (لوسيان لاتينوس/ Lucien Létinois).
توالت القراءات الشعرية بعد ذلك، فصل في جحيم رامبو  وشوارع فرلين وباللغتين الفرنسية والانكليزية. ثم إستعرضت الشاعرة البريطانية (دارين ريز- جونس/ Deryn Rees-Jones's) المرأة في بعض قصائد رامبو ، قصيدة أوفيليا التي صنع لها رامبو  تمثالا شعريا مذهلا لشهيدة العشق هذه :
"منذ ألف عام وأوفيليا الحزينة
تخطرُ شبحاً أبيض على النهر الطويل الأسود
منذ ألف عام وجنونها العذب
يهمسُ أغنيتها لنسيم المساء" 
وقصيدته المبكرة (الى الموسيقى) التي تظهر نزعاته نحو الأنثى:
" وسرعان ما أقتنصُ الأحذية الصغيرة والجوارب
فأعيد تشكيل الأجساد، تلهبني حمى عذبة.
هنَّ  يلفينني ظريفاً ويتهامسن
فأُحسّ بالقبّل وهي تصعدُ الى شفتيّ "
الامسية شهدت حضوراً كثيفاً من الجمهور البريطاني والفرنسي.