عبق الجسد في لوحة
شهد
الناشنونال بورتريت كالري في لندن المعرض الإستعادي الأول للفنان البريطاني لوسيان
فرويد، المعرض الذي أعقب وفاة لوسيان فرويد(2011)، خُططُ له في السنوات الخمس
الاخيرة من حياة الفنان، شهد إقبال 175,000 الف زائر منذ إفتتاحه. وقد مُددتْ أوقات الزيارة في آخر إسبوع للمعرض
الى منتصف الليل لكي يستقبل أكبر عدد من الزائرين.
هذا المعرض يوثق لحياة الفنان
الشخصية والفنية وعائلته وأصدقائه ويُؤرخ هوسه بالألوان عقداً بعد آخر ويسلط الضوء
على عظمة إنجازه الفني وتفرده. المعرض يرصد أيضاً فترة قريبة من تاريخ
مدينة لندن من خلال عين لاقطة لا تهمد
ولا تتعب بطريقة بهيجة ومستفزة في آن واحد.
لوحات
لوسيان فرويد غريبة، معقدة وذات طبقات لونية متعددة وتعطي إنطباعاً مغايراً كلما
نظرت اليها من زواية مختلفة أو تبعاً لدرجة القرب منها، هي غريبة لان لوسيان فرويد
من رسمها، لأن عينه التي تحدق في الأجساد وضربات فرشاته وطريقة إبتكاره للجسد في
فضاء اللوحة وفي فسحة الالوان، فيها الكثير من العنف والحنان في ذات الوقت.
هذا المعرض الشامل يظهر مسارات فرويد الفنية الإبتكارية، تصاعد
إسلوبه الفني ويستعرض لغز الحاضر( وقت اللوحة) في أجساد شخصياته وملامحهم، كل أعماله
تقريباً ولوحاته، بورتريهات للحظات او مواجهات أكثر من كونها أجساد في استديو
الفنان، بغض النظر عن هوية صاحب اللوحة سواء كانت عشيقة أو بنت أو أم الفنان أو
بارونة أو الملكة اليزابيث الثانية نفسها.
بدأ لوسيان فرويد الرسم في سن
الثامنة عشر( ولد في ألمانيا 1922) برسم بورتريت لإستاذه في كلية إيسد أنكليكان (سيدرك موريس ) عام 1940 وهي أقدم اللوحات في
هذا المعرض، اللوحة الصغيرة مشاكسة وساذجة بعض الشئ وتظهر تأثره المبكر
بالتعبيرية والواقعية السحرية الالمانية. وقد طور إسلوبه بخطوط رقيقة ودقيقة وألوان
صامتة كما في لوحته ( رجل مع اشواك 1947 ).
طَعّمَ لوسيان
فرويد لاحقاً واقعيته بنوع من قداسة الموضوع والسوريالية االمتهكمة. في لوحة (
فتاة مع هرة 1947) زوجة الفنان الاولى كيتي جيرمان تقبض بإحكام على رقبة هرةٍ
صغيرة، وشعرها كأنما مسته رجّة كهربائية وكذلك حاجبيها وروموشها، يرسمها بدقة
تخريمية كأنما ينقل رعب الخنق من الهرة الى المرأة، وهناك تناظر مخيف بين عيني
المرأة والهرة.
في لوحة (فناء داخلي كبير 1973)
المرأة العارية جوكاتا إليوت وهي عشيقة الفنان تستلقي على سرير صغير بعينين
تحملقان في سقف الغرفة بينما تجلس بجانبها أم الفنان، هناك دراما تناقض في هذة
اللوحة، بدءً من أصابع يد المراة العجوز مع مثيلاتها عند العاشقة وإنتهاءً بالنظرة
الحالمة للعاشقة والمنكسرة وغير المكتثرة للام ويضيف لوسيان نوع من ذروة تصاعدية
في اللوحة برسمه مطحنة يديوية باطنها أسود كأنما هو فحم السنوات تحت كرسي المرأة
المسنة.
في لوحة (غرفة في فندق 1954) تستلقي
زوجة فرويد الثانية كارولين وهي تعض خنصرها بتوتر بارد في زواية سرير فندق باريسي
بسيط، بينما يقف في الظل الفنان ينظر لها وكأنه يستعرض ببرود نهاية العلاقة،
الصباح هو الوقت الاكيد للمتمعن في دراما هذه اللوحة، النوافذ في الخلفية مشرعة
وتوحي بحكايات قاتمة مماثلة.
في (رجل مع إبنته 1963) التي رُسمتْ
في ضاحية بادنكتون اللندنية حيث أقام الفنان فترة من حياته، كأنه يسطو على خزين من
حقول الوجوه ويؤرشفها بالالوان المتضادة أحياناً، وجه الاب ذو الجرحين( كانه جرح
موس الحلاقة) الذي ينظر للاسفل يحتضن إبنته ذات الوجه المتورد ويتشاركان ذات
الملامح الممتلئة، حزنها أكبر من عمرها ولا يليق بطفلة.
(رجل مع
فأر1977) رجل أشقر وسيم يستلقي على أريكة في إستديو الفنان بينما يمسك بيده فأر
يتدلى ذيله على فخذ الرجل بتناسق مع شكل أعضاءه التناسلية.
العرض البهيج للوحات
الفنان الكبيرة التي تصور السيدة الضخمة المترجرجة (مراقبة الإعانات نائمة 1995)و
لوحة (النوم على السجادة الممطرزة بصورة الأسد 1996) هاتان اللوحتان تنسجمان مع
المعاصرة والاثارة في الرسم البريطاني المعاصر.
يعد لوسيان فرويد أحد آخر رواد
المدارس الحديثة للفن، مرحلة ما بعد التكعيبية التصويرية وقد اختار أن يتحرر من كل
اسلوب لكن بتماس طفيف لتقاليد الرسم المتعارف عليها، هناك توازن واضح في لوحاته بين التقليد وبين الحداثة من خلال إسلوب
متصاعد بهدوء، يستعرض التفاصيل بشفافية مذهلة وشاذة احيانا تجعل المتلقي قادر على
رؤية طبقات الجلد والشعور بنعومته ايضا لشخوص لوحاته.
في لوحة (صباح مشرق_ ثمانية سيقان
1997) يظهر ميل الفنان نحو السوريالية الجديدة، بؤرة اللوحة تتركز للوهلة الاولى
في الرجل العاري ذو السيقان المنثنية وهو يحتضن كلب الفنان (بلوتو) الذي يميل
برومانسية ناعمة لكن المتلقي سيصاب برعشة خوف طفيفة عندما يكتشف ان ساقين منثنيتان
تنبثقان من تحت السرير، هل هو انعكاس الرجل العاري ام رجل آخر يستر عريه تحت
السرير؟
يقول لوسيان فرويد انه عندما يرسم فلا
يفرق بين أجساد البشر والحيوانات والاشياء فكأنما هو معنيٌّ بالجسد فقط لكن هل يثق
المتلقي بكلام حفيد مؤسس التحليل النفسي وهو امام لوحات جسدية حقا لكنها تحفر في
طبقات الجسد باللون حتى يخيل لنا في بعض اللوحات إن الجسد يتكلم لغة ما نفهمها
جميعا لكن لا قدرة لنا على نطقها.
البورتريت
الاخير الذي مات دون ان يكمله وتركه على الحامل هو(كلب الصيد 2011) الذي يصوّر
صديقه ومساعدة (ديفيد دوسون) الذي يعرفه الفنان ب "انه يعرفني ويعرف أعمالي أكثر
من اي شخص اخر"، اللوحة مندفعة ومنحرفة عن مسارها نوعا ما، تصوّر ديفيد
المفعم بالحيوية يجلس عارياً وبجانبه الكلب السلوقي إيلي، دفق من الالوان الناتئة
وطبقاتها المتراكمة لوناً فوق آخر بطريقة حرة لكن التناغم بين الشخص والكلب يحيلنا
الى لوحة اقدم ب60 سنة وهي لوحة (بنت مع كلب 1950) حيث يصوّر فرويد زوجته الاولى
ذات البشرة البروسلين وهي تعرض إحدى نهديها وشامته البارزة، تحدق بنظرة مليئة
بالرعب بينما بتناقض ملحوظ يستلقي كلبها بهدوء في حجرها وكأنه يذوب بنسيج ثويها
الوبري الاخضر.
يعترف لوسيان فرويد ان لوحاته
تمارس نوع من
العداونية البصرية على المشاهد من خلال
الجنس والقوة (المرآتان اللتان دعا الجد فرويد القرن العشرين ان يرى نفسه
فيهما) وهاتان الثيمتان الواقعيتان مرئيتان بوضوح لا يقبل اللبس في كل اعماله، عين
الفنان نهمة مفترسة للاجساد العارية بكل تفاصيلها. في لوحة (انعكاس مع طفلين1965)
يصور لوسيان نفسه على هيئة مسخٌ يُخيّم على الفضاء العلوي للوحة وكانه برج مشوه
يعلو إبنتيه ( آيلي وروز).
أخيراً، ان كل لوحة في هذا
المعرض هي حكاية قائمة بذاتها بكافة تفاصيلها فهي تقول وتُدهش، تُقلق وتغوي وتقنع
بجدواها.
No comments:
Post a Comment